مذكرات العالم الجليل د.مصطفي محمود
الإثنين يناير 03, 2011 9:42 pm
بسم الله الرحمن الرحيم
«المصري اليوم» تنشر مذكرات المفكر الكبير د.مصطفى محمود التــى سجلــهــا قبـــل وفــاتــه
الحلقةالأولى .. بذرة الشك
من كان يصدق ذلك؟ ؟؟
أخيراً بعد عشرين عاماً من الاختفاء وقبل وفاته.. يتكلم.. سأل عنه الناس.. وتكلموا.. ويئسوا.. ثم سألوا.. واندهشوا.. وصمتوا.. تعددت الشائعات فمنها أنه تم إبعاده لأسباب سياسية ومنها أن مرضاً لعيناً أصابه وأجلسه فى البيت، ومن روج أنه ترك عائلته ووطنه وسار هائماً على وجهه فى البلاد يبحث عن اليقين.
أخيراً وبعد عشرين عاماً من العزلة وقبل وفاته.. يتحدث.. ويطل على الناس.. ويروى.
أكثر من أثار الجدل فى مصر خلال القرن العشرين.. وأكثر الشخصيات التى تعرضت للهجوم والشائعات طوال حياته.. أخيراً يتكلم صاحب أكثر الكتب الدينية إثارة للجدل فى القرن العشرين (الله والإنسان) كتابه الأول الذى حوكم من أجله فى شهر رمضان وقد كان بداية لموجة التكفير، التى عانى منها المفكرون فى مصر خلال الخمسين عاماً الأخيرة.
مصطفى محمود.. العالم، المفكر، الفيلسوف، الطبيب، الفقيه، الصحفى، السياسى،
الكاتب، الأديب، يتكلم ويروى ويتحدث ويعلم أجيالاً افتقدوا القدوة وبحثوا عنها كثيراً، وحتى الآن لم يعثروا عليها.
ننشر هنا حقائق لأول مرة من خلال مذكراته التى روى منها جزءاً كبيراً وتم استخراج باقى هذه المذكرات من خلال أعماله وكتاباته، وهنا يجيب عن تساؤلات كثيرة ظلت بدون إجابات حول طفولته
وجمعية الكفار التى كونها فى الثانية عشرة من عمره
وكيف كانت حشرات الصراصير بداية رحلة الشك الطويلة
وهل بالفعل وصل مصطفى محمود إلى اليقين التام ؟وما المنهج الذى استخدمه؟
وكيف كان لوالده تأثير قوى عليه وكيف احتلت ابنته أمل مكانة الأم عنده.. ؟؟
وهل كان الموساد الإسرائيلى سبباً فى فشل زيجاته؟؟؟
وهل كان له يد فى الشائعات التى دارت حوله وهل حاول اغتياله؟
؟؟؟؟؟
؟؟؟
نكشف علاقته بكل من (هيكل.. صلاح حافظ.. عبدالوهاب.. صلاح جاهين.. هتلر.. السادات.. إحسان عبدالقدوس.. لويس جريس.. عبدالناصر.. لوتس عبدالكريم.. بنت الشاطئ.. روزاليوسف.. ماركس والشيوعية).
عن أزمة الشفاعة التى لم تنته حتى الآن
يتحدث عن قصة البرنامج الذى كانت تخلو شوارع مصر من المارة أثناء إذاعته.. ولماذا أراد مصطفى محمود أن يصور للناس عذاب القبر بالصوت والصورة؟
أين مصطفى محمود؟
لم يكن اقترابنا منه سهلا أبدا.. هو ناسك فى صومعته الآن.. غير مسموح لأحد بالتطفل أو الاختراق.. لذلك كان السماح لنا بالاقتراب أمراً غير عادى..
ذهبنا فوجدناه ولم نجده.. فقد كان جسده الذى نحل يملأ المكان.. وصوته الذى وهن يخترق سمعنا..
لا يشغله شىء عن قضاياه التى تفرغ لها.. ابتعد عن المشكلات التى تشغل المصريين هذه الأيام..
الفلاسفة دائما لا ينظرون إلى التفاصيل وإنما يرجعون كل المشاكل إلى العلل الكبرى
وعلل مصر والأمة العربية والإسلامية تتلخص الآن من وجهة نظره فى (تدنى الأخلاق، والبعد عن الدين، والفرقة).
اقتربنا منه فى اليوم الذى شهد مولده والعائلة تحتفل بعيد ميلاده الـ٨٨ فى السابع والعشرين من شهر ديسمبر عام ٢٠٠٨
.. شاهدناه.. راقبناه.. حاورناه.. جادلناه واستمتعنا بالخصوصية التى خصنا بها هو وعائلته الكريمة..
طفنا فى صومعته الخاصة التى لم تتجاوز شقة مساحتها ٨٥ متراً عبارة عن حجرتين وصالة صغيرة،
واجهنا صعوبة شديدة فى التحرك داخل أرجاء صومعته بسبب تلال الكتب المترامية، التى كادت تخفى معالم الجدران.
لم يتغير برنامجه طوال فترة اقترابنا منه فهو بعد الاستيقاظ فى الثامنة صباحاً يتناول وجبة إفطار خفيفة فى السرير «جبنة ومربة وعيش توست وشاى بلبن أو نسكافيه»، ثم يحصل على حمام دافئ، وبعد ذلك يبدأ بقراءة الجرائد، ويحصل على جولة قصيرة ليتابع أخبار العالم أمام التليفزيون، لينكبّ بعدها على كتبه ودفاتره يدون أفكاره مستنداً إلى لوحه الخشبى الشهير «مصطفى محمود لم يجلس على مكاتب أبدا»
لا يتوقف إلا لتناول الغداء فى الخامسة والذى لم يتغير أبدا عن السمك المشوى يتلوه تفاحة وموزة
ليستمر فى اجتهاده بين كتب الفلسفة والدين وعلوم الكون، ويحاول تفسير بعض الآيات الكونية التى وردت فى القرآن الكريم ويتناول وجبة العشاء فى العاشرة مساء وهى مثل الإفطار ليواصل اجتهاده إلى الثانية عشرة مساء.
وعن عزلته هذه تقول ابنته أمل
إنها ليست بجديدة عليه فقد كنا أطفالاً صغاراً لا نستطيع دخول غرفته.. والذى تغير هذه الأيام أن فترة العزلة قد طالت، لدرجة أنه يظل لأيام لا يتحدث مع أحد، مما يدفعها للقلق عليه فتذهب لتطمئن عليه فتجده فى حالة تأمل وسكون تام أو غرق فى القراءة، وعندما أظهرت قلقها عليه ذات مرة طمأنها وقال: «لا تقلقى على فأنا لا أعيش وحدى فالله معى ولا يتركنى».
إلا أن الأزمة الأخيرة التى أرقدته داخل المستشفى الذى يحمل اسمه، حيث عانى من التهابات شديدة فى قرنية العين.. ربما حسم أمره وقتها وقرر أنه آن الأوان أن يخرج من عزلته ويفتح دفاتر أسراره.
هناك صور لا تنمحى من الذاكرة أبداً مثل:
■ متى فقدت الأمل فى الحلم ورضيت بالواقع؟
■ ما اللحظة الفاصلة بين أنا القديم الحالم الساعى لتغيير العالم وبين أنا الذى صرت؟؟
■ فى أى يوم وفى أى ساعة وفى أى لحظه فهمت أن الحلم حلم والواقع واقع أكان ذلك أيام الجامعة أم فى دهاليز المجلة «سنة أولى تدريب» وأنا أرى القيم تتساقط أمامى الواحدة تلو الأخرى على يد أساتذتى الكتاب الكبار الذى كنت أحلم يوماً بالحديث لهم؟؟
■ أم حين كفرنى من كفرنى، لمجرد أن اعترضت على شعار الإسلام هو الحل وأشاعوا تنصيرى؟؟؟
■ أم حين شعرت بالغربة لأول مرة عن أهلى وأنا فى بلدى واخترت العزلة؟
لم تكن نشأته عادية، فمن يقرأ وهو فى الثامنة من عمره كتابات داروين وسلامة موسى، التى يصعب على البالغين استيعاب ما تحمله من أفكار طفل غير عادى..
وفى هذه النقطة يقول مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ، الذى ينتهى نسبه إلى علىّ زين العابدين إلى على بن أبى طالب: «كان كل ما يحاوطنى يدفعنى للتفكير.. ورفض المنطق أو المسلمات،
فعندما أنشأ وسط سبعة أخوة أنا أصغرهم، ويكون أبى هو الزوج الثالث لأمى، والمفارقة الغريبة أن تكون أمى الزوجة الثالثة لأبى،
وعندما يخبرونى أنى ولدت لتوأم اسمه سعد لكنه توفى بعد الولادة بأيام قليلة..
وهو الأمر الذى شغلنى كثيرا فى طفولتى أننى فقدت توأمى الذى وهبه الله لى..
ولدت فى قرية ميت خاقان القديمة بمدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية، التى كانت تسمى أيامها مديرية المنوفية، وكان ميلادى يوم ٢٠ ديسمبر عام ١٩٢١،
ولكن المقيد فى شهادة ميلادى هو يوم ٢٧ ديسمبر ١٩٢١ أى بعد ميلادى الحقيقى وهذا كان سببه أن معتقدات الناس فى وقتها أن المواليد لا يتم قيدهم إلا بعد مرور أسبوع لعل الطفل يموت فيصبح لا داعى للأوراق والدفاتر والسجلات وخلافه، وهذا ما حدث بالفعل مع توأمى، ولم يقوموا بتسجيلى بالتالى إلا بعد أن ارتاحت الأسرة بأنى يمكن أن يكون فى عمرى بقية.
ما تلى ذلك من سنوات كان مثيراً للدهشة فعلا وهو ما غيّر فى طفولتى بالفعل،
لأنه حدثت بينى وبين المرض صداقة غريبة وقد عانت أسرتى بسبب أمراضى المتكررة،
وربما يعود السبب فى ذلك إلى أننى مولود ابن سبعة أشهر. أتذكر مشاهد غريبة لا أنساها أبدا وأنا طفل صغير حين كنت أشاهد زملائى يلعبون ويمرحون ويلعبون الكرة ويجرون ويتصارعون بينما كنت عاجزاً عن أن أفعل مثلهم بالفعل وإلى الآن مازالت نزلة برد خفيفة يمكن أن تسكننى فى الفراش لمدة شهر،
ولهذا كان يجب أن أبحث عن ذاتى ولا يمكن أن أستسلم للمرض، ولهذا لم يكن غريبا أن يكون لى عالم خاص، لأنى أختلف كما رأيتم عن أقرانى،
فكنت أتركهم يلعبون الكرة وأدخل عالمى الخاص لأتجول فيه ما بين البطولات والانتصارات بداية من السندباد ورحلاته التى كانت لا تفارقنى والمكتشفين والعلماء وكانت أحلامى كلها بطولات سواء بطولات عسكرية مثل خالد بن الوليد والإسكندر الأكبر الذى كتبت فيما بعد مسرحية تحمل اسمه أو بطولات علمية مثل ماركونى وأديسون.
انتقلت الأسرة بعد ميلادى بأيام إلى شارع «الحلو» الذى كنا نسكن فيه بمدينة طنطا بمحافظة الغربية حاليا، بعد أن كانت تلقب بمديرية الغربية، وحين أتذكر تلك المرحلة المبكرة من حياتى تأتينى وعلى الفور من الذاكرة صورة والدى، ذلك الحنون الذى ينتمى فى خاطرى إلى تكوين الملائكة.. كان يحتضننى ويحملنى على كتفه فور عودته من عمله فى الديوان العام لمديرية الغربية،
ولأننى كنت آخر العنقود ومريضا فى نفس الوقت فقد كنت مدللا بمعنى الكلمة، رغم أن حال الأسرة أقل من المتوسط، فلو قلت له أحضر لى لبن العصفور لفعل ذلك دون تردد، وإذا قلت لهم «نفسى فى الملوخية» كما كنت أفعل دائما لأننى أحبها فكان يسرع والدى ووالدتى إلى كل الجيران يبحثون عن الملوخية إذا لم تكن فى قائمة طعامنا يومها،
وكانوا لا يردون لى طلبا مطلقا، وكما سبق وقلت كانت أمى هى الزوجة الثالثة لأبى وكان أبى هو الزوج الثالث لأمى، فقد تزوج أبى زوجته الأولى التى رحلت بعد زواجه منها وعلى ما أتذكر كان اسمها سعاد،
ثم تزوج الثانية وفشل فى زيجته، ثم كانت أمى هى الزوجة الثالثة له، ومن المفارقات الغريبة أنه هو أيضا كان الزوج الثالث لها ولأن أبى كان إنساناً طيباً حنوناً فقد ضم كل أولادها من زوجيها السابقين إليه ولهذا فقد كان منزلنا يضم عائلة كبيرة: شقيقتى الكبرى من أمى وشقيقتى الصغرى «اعتدال» وقد رحلتا منذ فترة كبيرة وشقيقين من زوج سابق لها وهما حلمى مراد ومحمد مراد، بالإضافة إلى شقيقى الأكبر المرحوم حسن محمود، الذى كان (محافظاً للدقهلية) فى الستينيات،
وشقيقى مختار هذا فضلا عن شخصى وتوأمى «سعد» الذى رحل بعد أيام من مولدنا،
وبهذا فكانت الأسرة تتكون من تسعة أفراد بعد موت سعد،
وكانت أمى طيبة وحنونة وسيدة منزل مدبرة حازمة وكأنها تحقق بذلك التوازن فى الأسرة لأبى المفرط فى عمليات الصرف، وكانت وزيرة اقتصاد لمرتب أبى الضئيل،
حيث كان يعمل محضراً براتب لا يتجاوز ٨٠ قرشاً، ولكنه كان إنسانا مثقفا يتحدث الفرنسية بطلاقة، فقد كانت شهادة الابتدائية التى حصل عليها تحمل فى مناهجها ودراستها التعمق فى دراسة اللغات الأجنبية ومنها الإنجليزية والفرنسية،
ثم تدرج أبى فى مناصبه من أولى الدرجات الوظيفية كمحضر إلى أن وصل إلى سكرتير فى مديرية الغربية وارتفع راتبه من ٨٠ قرشا حتى وصل إلى ٢٠ جنيها وهو أكبر راتب حصل عليه فى حياته،
وكانت له عادة لم يقطعها فى حياته منذ أول راتب تقاضاه وحتى آخر راتب،
وهو أنه كان يعطف بربع راتبه على الفقراء، كان يذهب إلى أقاربه الفقراء والجيران ومعارفه الذين كان يرى فيهم رقة الحال فى القرى المحيطة بطنطا ويوزع عليهم ربع هذا الراتب الضئيل، فقد كان حنونا عطوفا إلى أبعد مدى مع زوجته وأولادها وأقاربها ومعارفه، وعلى الرغم من الراتب الصغير الذى كان يتقاضاه أبى فإننا كنا نشعر بأننا أثرياء فلا نأكل إلا أفضل الغذاء،
ولا أستطيع أن أعلل أو أفسر سوى أنها «البركة»، فالراتب ضئيل وصغير ولكن الله بارك فيه، لأن من تقاضاه قد بذل فى سبيله العرق والجهد الذى يستحقه وقد أتقن عمله على الوجه الأكمل فبارك الله له فيما رزق، وكانت اللحوم والخضر والفاكهة والمأكولات لها طعم ونكهة تختلف عن الآن تماما، فما نأكله اليوم «كيماويات وأدوية وهرمونات»..
لا أستطيع أن أنكر أننى عشت حياة متواضعة فى منزلنا لكن شملتها الراحة والسكينة والطمأنينة والبركة فى المعيشة والمأكل والمشرب والملبس،
حقيقى أننى لم أكن أعرف السيارة أو التاكسى ولكن «الحمار» فى أحسن الأحوال كان وسيلة جميلة أستخدمها حينما كنت أريد أن أذهب إلى القرى المجاورة لزيارة أقاربنا ومعارفنا
وكان طريقى إلى المدرسة أقطعه سيرا على الأقدام يوميا ولا أنسى أن زملائى فى المدرسة (وكان اسمها الكتاب الشوكى نسبة إلى صاحبها الشيخ محمد الشوكى الذى كان يدرس اللغة العربية وكنت ألقبه بالبعبع نسبة إلى عنفه وشدته) كانت تنتظرهم على باب المدرسة سيارات فارهة لتوصيلهم إلى منازلهم، لكنى لم أعقد مقارنة مطلقا بينى وبينهم،
لم أحلم يوما بأن يكون لدى سيارة أو قصر ولم يخطر ببالى ضرورة أن أكون غنيا،
فقد كنت أعيش بكل كيانى فى عالمى الخاص وهو كان عالماً مليئاً بالقيم والمثل العليا ومليئاً بالبطولات والانتصارات، ودائماً كان بداخلى انتصار الخير على الشر فى هذه الحياة،
ورغم مرض أبى سبع سنوات كاملة كان فيها طريح الفراش فإننى لم أسمع منه شكوى واحدة أو عبارة تحمل نبرة السخط والتذمر بل كانت الابتسامة لا تفارق شفتيه أبدا،
وكان يؤدى فروض الرجل المسلم الموحد حتى آخر يوم فى حياته،
وأيضا كان يعتريه فى أواخر أيامه النسيان فكان يدخل عليه أصدقاؤه من المشايخ ويقولون له: يا شيخ محمود أنت رفعت عنك التكاليف، وكان أبى يضحك وهو يرد عليه قائلا: لا يمكن أن ترفع التكاليف أبدا.
وحينما كان ينسى بحكم السن والشيخوخة وضعف الذاكرة عدد الركعات كان يسألنى لأذكره. لقد كان أبى يمثل لى الكمال الخلقى النادر، وتعلمت منه الكثير من القيم والمثل العليا والنبيلة.
وقد كنت من مواليد نفس برج أبى، وهو برج القوس، لذا تمتعت بنفس صفاته ولم أكن من مواليد برج الجدى، وهذا يفرق كثيرا فى الأبراج،
لدرجة أن أحد رجال الفلك وكان يدعى الشيخ حسين ضرب لى النجم وحسب لى من المراجع الفلكية منذ أكثر من أربعين سنة، وقال لى أنت لست من برج الجدى، ولكن من برج القوس، وشكلك وملامح وجهك وصفاتك تقول إنك من برج القوس،
ومن مفارقات الأيام أن هذا المنجم قد تنبأ بما سيحدث لى على مدى عشرين عاما بالتفصيل والأرقام، ولا تسألونى عن إيمانى بالمنجمين، لأنى لا أقصد شيئاً ولكن فقط أقص عليكم ما حدث معى بالضبط.
كان مصطفى محمود يعرف ما نريد الحصول عليه بالضبط، فمما سبق عرفنا منه كيف تكونت أفكاره المتمردة أو المختلفة، ولكنه كان يلمح فى نظراتنا التلهف على معرفة كيف خرجت هذه الأفكار إلى أرض الواقع فقال:
«طفولتى كانت غريبة وعجيبة، كما ربانى والدى فى المسجد والكتاب، أى أنها كانت طفولة دينية من الدرجة الأولى، لكننى لم أجد فى نفسى المتلقى التقليدى وخلاص،
بل كان كل شىء يدخل بداخلى كان يمر على مصفاة فأنتقى الأشياء التى أشعر أنها يقينية وأتخلص من أى شىء أشعر بأنه هراء حتى لو كان من شيخ الجامع،
فمثلا الجميع يعرف قصة مرحلة الشك وكيف عبرت منها من الشك إلى اليقين،
ولكن الذى لا يعلمه أحد أن إمام مسجد هو من زرع بداخلى بذرة الشك الأولى فى العقيدة،
وفى كل ما يحيط بى خصوصا المسلمات (أى الأمور الفطرية التى يتعامل معها الإنسان كأنها أمور طبيعية مثل ما يتلقاه الابن من والديه فى طفولته وهكذا)، عندما تعامل معنا بجهل وكأنه يتعامل مع (شوية فراخ) دون أن يعلم أننى سأكون له بالمرصاد،
فقد كنت منذ طفولتى المبكرة أشعر بقلبى وعقلى يتجهان إلى الدين، فمنذ السابعة من عمرى كنت متجها للدين بكل حواسى ومشاعرى أصلى الفروض جميعها فى المساجد وأستمع بإنصات واهتمام شديدين إلى الأئمة والشيوخ والدعاة فى المساجد،
وكنت أتردد فى هذه الفترة على مسجد وضريح سيدى عز الرجال الموجود فى طنطا مع مجموعة كبيرة من أصدقائى نصلى الفروض والسنن ونستمع إلى وعظ شيخ الجامع (جامع سيدى عز الرجال والشيخ كان اسمه محمود) الذى كان يمثل لى قيمة كبيرة لم يتساو معها أى شخص فى تلك الفترة، ولهذا كنت أدون كل ما يقوله ونحضر المولد وحلقات الذكر وراءه،
إلى أن جاء يوم قال لنا فيه الشيخ محمود: شوفوا ياولاد..
أنا سأقول لكم على طريقة تقضون بها على الصراصير والحشرات الضارة فى المنزل وهى طريقة دينية عظيمة جدا، وكل واحد يفتح الكراسة وسوف أملى عليكم هذه الطريقة العظيمة الجديدة..
وأخذ يملى علينا كلاماً عبارة عن مزيج من الآيات والطلاسم، ثم قال لنا: الصقوا هذه الورقة على الحائط وسوف تكتشفون أن الصراصير سوف تموت موتاً شنيعاً على هدى هذه الطريقة الدينية العظيمة..
وبالطبع فقد فرحت من كل قلبى، لأننى كنت على استعداد لتصديق كل ما يقول وكتبت كل ما قاله بالحرف الواحد ولصقته باهتمام شديد على الحائط وجلست منتظراً النتيجة، لكن خاب ظنى،
وأصبت بإحباط شديد، فقد تزايدت الصراصير وأصبحت أضعاف ما كانت قبل طريقة الشيخ، بل الأدهى من هذا أن الصراصير اتخذت من الورقة التى أخبرنى بها الشيخ ملجأ لها ومن يومها أحسست أن الرجل «نصّاب كبير»،
وبدأت أشك فى كل شىء ليس فى هذا الشيخ وحده ولكن فى كل من حولى،
وكانت هذه هى بذرة الشك التى زرعت فى نفسى وقد زرعها الشيخ محمود خطيب وواعظ جامع سيدى عز،
لم أشك فى الورقة التى دعا إليها فقط أو فى حديثه، ولكن اعترانى شك فى كل شىء.
قصة الشك وتاريخها أصلا مرتبطان بطبيعة تكوينى الفكرى وطبيعتى كمفكر.. ضحك وقال (وهنا أذكر بأننى كنت مفكراً وأنا فى بطن أمى)
فمن طبيعة المفكرين أن يعيدوا النظر فى المسلمات، إنهم يبدأون من البداية الأولى،
دائماً يبدأون من صفحة بيضاء، فهم على الدوام ضد المسلمات،
فهذه هى الرحلة الطبيعية، وهى تعنى شكاً منهجياً وليس شكاً عنادياً، فهناك فرق بين أن يعاند الإنسان أو يجادل، وبين ألا يسلم بالبدهات أو يبدأ بالمسلمات بأن يكون منهجياً..
وبالفعل إن قصة الشك قديمة وبدأت معى من الطفولة حين كنت أخطو أولى خطواتى وكنت لا أزال مراهقاً صغيراً لم أتجاوز ١٢ عاما عندما أحببت أن أتمرد على شيخ الجامع فكونت جمعية فى بيتنا المقابل له وقد سميتها (جمعية الكفار)،
وكنت أناوش الشيخ بها، كنا نكتب مطبوعات هذه الجمعية ونحاول اختراق المسجد لكى نلصقها بداخله ونوزعها على المصلين لجذب أعضاء جدد لكنهم أمسكوا بى ذات مرة وضربونى علقة ساخنة فى الجامع،
وقد أخرج الشيخ كل غضبه علىَّ فى هذه المرة، لأننى فكرت ولأننى أول من اعترض على كلامه وأفكاره،
وكانت هذه الأفعال ليس من وحى خيالى، ولكنه كان تيارا موجوداً على الساحة أيامها ينشر هذا الاتجاه ممثلا فى كتب دارون وسلامة موسى وشبل شميل والتى كانت أفكارهم ثورة على الدين
وهذه الثورة استهوتنى بشكل كبير وبالتالى سرت على هذا الطريق وهذا المنهج، وكنت أقضى يومياً من ٥ إلى ٦ ساعات فى مكتبة البلدة بطنطا وأقرأ فى مختلف المجالات وأدخل فى مناقشات ومجادلات وخناقات تنتهى بالضرب والجرى،
خاصة بعد إنشاء (جمعية الكفار) هذه التى كانوا يعتبرون أفكارها بالطبع دعوة للكفر، وكان معى فى هذه الجمعية أصدقاء مسيحيون،
وخطورة هذا أن هذه الجمعية كانت ضد الأديان عموماً، وكانت مرحلة غريبة فى حياتى كلها على الإطلاق، ولو تأملتم كيف ولماذا تكونت جمعية الكفار أو ما هو مبعث شكوكى فى الأديان ستجدوا أن شيخاً واعظاً هو الذى قادنى إلى الشك، فقد ولدت شكوكى على يد شيخ، والسبب فى هذا أنه تحدث بجهل وخطأ،
وهذه أسوأ طريقة، فلاشك أن الوعظ الخاطئ يمكن أن يقود إلى كارثة مروعة،
فالذى قاله شيخ سيدى عز الرجال لا يمت للدين بصلة مطلقاً، فهو لاشك رجل كذاب ودجال على أى حال،
وكنت فى هذه الفترة من العمر أتساءل فى تمرد: «تقولون إن الله خلق الإنسان لأنه لابد لكل مخلوق من خالق ولابد لكل صنعة من صانع ولابد لكل موجود من موجد صدقنا وآمنا، فلتقولوا لى إذن من خلق الله أم أنه جاء بذاته وإذا كان كذلك فى تصوركم فلماذا لا تصدقون أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهى الإشكال»،
وعندما كنت أقول هذا فتصفر من حولى الوجوه وتنطلق الألسن تمطرنى باللعنات وتتسابق إلى الكلمات عن يمين وشمال ويستغفر لى أصحاب القلوب النقية،
ويطلبون لى الهدى، نعم لقد رفضت عبادة الله، لأننى استغرقت فى عبادة نفسى، وأعجبت بومضة النور التى بدأت تومض فى فكرى مع انفتاح الوعى وبدأت الصحوة من مهد الطفولة.
وفى عمر الـ١٦
بدأت برفض المسلمات. لم أكن أريد أن آخذ شيئاً عن أبى وأمى، ولكن كنت أريد أن أجتهد اجتهاداً شخصياً، وبدأت بالمحسوس الذى أمامى ولم أبدأ بما وراء الطبيعة،
وقد تمثل هذا المحسوس فى الطبيعة «الفيزياء» فوجدت الفيزياء والكيمياء عاجزة عن أن تفسر لى شيئاً عاجزة عن أن تفسر لى الحياة والموت،
ومن أجل ذلك استعنت بالفلسفة فوجدت أنها فى حاجة إلى فلسفة لتعينها، فبدأت بالأديان سواء كانت سماوية أو دنيوية (بوذا وزرادشت وعيسى وموسى ومحمد)
فوجدت كمال الأمر كله فى القرآن..
وكانت هذه هى المرحلة الطبيعية، ورغم أننى اتجهت بقلبى إلى الدين فكانت هناك أسباب حقيقية قادتنى إلى الشك، ومن هنا بدأت رحلة الشك، وبدأت أحاور وأرفض وتحدث فجوة بينى وبين الدين وتزايدت هذه الفجوة تدريجياً.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
إن سر القلق:
أننا نعيش بلا دين .. بلا إيمان وأن ديننا هو من الظاهر فقط..
كلمات على الألسن فى المناسبات وصلوات تؤدى بحكم العادة..
فاعرف نفسك تعرف ربك، أصبح الآن بحكم الوصول لابد من المرونة والتكيف..
حتى لا نصطدم ونشتبك ولابد لنا من المداهنة والمجاملة والتملق واكتساب الناس بالكذب عليهم،
لابد أن ننافق الذين نكرههم لأن لهم فائدة ونتجنب الذين نحبهم لأنهم يعطلوننا فى الطريق..
بالفعل إن نجاحنا يعتقلنا.. ينتهك حرماتنا وفى الوقت الذى نظن فيه أننا ننجح ونحقق أحلامنا إذا بنا فى الحقيقة نفقد هذه الأحلام.. ونفقد أنفسنا وكل هذا من أجل إشباع حوافز الطعام والجنس وحب السيطرة.
مصطفى محمود
مازالت ذكريات الطفولة تنساب.. حكايات الطفولة غير العادية لفيلسوف الشرق..
فيقول:
«طفولتى كانت غريبة وعجيبة.. كانت لا تستقر أبدا أو تعيش على الأرض التى أقف عليها،
كانت سلسلة من الأحلام الجميلة والشيقة التى أغوص داخلها،
طفولتى كانت سلسلة من الهروب، هروب من واقعى المريض العليل أو هروب من مرحلة الطفولة نفسها، التى بطبيعتها ضيقة تحصر الطفل بحكم السن داخل حدود صغيرة جدا،
بينما كانت طبيعتى نفسها أكبر من المرحلة العمرية، فكانت تراودنى أحلام كبيرة وضخمة.. لا تقل فى ضخامتها عن جبال غابات الأمازون التى تمنيت مشاهدتها
وتمنيت رحلات للغابات الاستوائية التى كنت أقرأ عنها فى الكتب والقصص
وأظل ساعات طويلة أعيش فى حالة من الخيال الذى يدفعنى لأن أصدق أننى ذهبت إلى هناك فى ثوان معدودة ومارست اللعب مع القرود والغزلان وسارعت بالهروب من الأسود والنمور قبل أن تبتلعنى..
وكنت أترك لقلبى وعواطفى وعقلى العنان.. بلا قيود..
وما شجع هذه الخيالات والأحلام طبيعة المناخ الثقافى الذى عشته وعاشته أسر الطبقة المتوسطة فى هذه الفترة الزمنية فى الربع الأول من القرن الماضى،
حيث كنت أداوم على مشاهدة روايات طرازان والسندباد والسندريلا فى أفلام السينما والتى بسببها كنت أقترض بعض مصروفات إخوتى لأنى أنفق مصروفى بالكامل فى أيام معدودة من أجل مشاهدتها أكثر من مرة
وعشقت قصص السندباد وربنسون كروزو وأعجبت بقصة تحطيمه لمركبه ليعيش فى الغابات بين الأشجار الكثيفة والقرود والحيوانات،
وتمنيت أن أفعل مثله
لأنه ليس هناك أجمل وأروع من أن يعيش الإنسان على الفطرة والطبيعة التى خلقها الله بدون تدخلات وعبث البشر بها والتى تفسدها باسم التحضر والتكنولوجيا.
(ومن الممكن القول بأن المناخ الثقافى لهذه الفترة كان سبب نضوج عقلية مصطفى محمود)
ولكنه قال: كان أحد الأسباب فقط، فأبى شكّل الدعم الأكبر فى هذه المرحلة..
فمن المشاهد التى لا أستطيع حتى اليوم أن أنساها أبدا أنه بينما كان الآباء من جيراننا يدخلون بيوتهم وفى يد الواحد منهم كيس من الفاكهة أو الخضار،
كان أبى يترك شؤون البيت هذه لأمى، فأبى لم يدخل البيت أبدا وهو يحمل «ربطة فجل»، كان يحمل دائما فى يديه المجلات والكتب..
ولا أنسى عندما دخل وهو يحمل ربطة كتب ومجلات ملفوفة بخيط دوبارة وأعطاها لى بدون أن يذكر لى ماذا أفعل بها..
كنت مازلت طفلا صغيرا وبالتالى كانت النتيجة المنطقية أن أقوم بتقطيع معظم هذه الكتب، إلا أننى وأنا ألعب وأمرح على بقايا مذبحة الكتب وقعت عيناى على إحدى صفحات مجلة وجدتها تحمل صوراً ورسومات شيقة لقصة مصورة..
أعجبتنى جدا.. وأردت أن أعرف باقى القصة..
ودفعنى عقلى الصغير إلى محاولة إعادة تجميع وترتيب القصة كلها.. وكانت بداية القراءة معى..
وكان هذا ما يريده أبى الذى كان يراقبنى من بعيد، بينما كان من فى مثل عمرى لا يستطيعون حتى الرضاعة.
كما أن هناك مشاهد فى طفولتى لا يمكن أن تنسى أو تنمحى من ذاكرتى
فقد كنت أحب وأعشق المدرسة ويوم الجمعة كان يوم الإجازة الأسبوعى من المدرسة، أو كما كنا نسميه يوم المسامحة،
وكنت أتمرد على هذه التعليمات وأذهب فى الصباح وأقفز من فوق السور إلى داخل المدرسة حتى لا يرانى الخفير وأتجول فى الفصول حتى يحين موعد أذان العصر
ثم أمضى إلى أصدقائى وأقص عليهم أننى كنت فى المدرسة اليوم فيقولون غير مصدقين «اليوم هو المسامحة» فأقول «أنا معنديش مسامحة أبداً»
وكان أحب الأيام لقلبى عندما أرتدى الزى الجديد فى أول يوم دراسى والأيام التى كنت فيها أقود مراكبى التجارية إلى الهند أثناء تساقط الأمطار الغزيرة بمنتصف فصل الشتاء فى فناء المدرسة
فقد كنت أصنع مراكب من الورق وأسيّرها فى المستنقعات الصغيرة والبرك التى خلفتها الأمطار وأتخيل أنها ذهبت إلى الهند وأنى أقودها وأثناء الرحلة تقابلت مع الهنود ونشبت بينى وبينهم صداقة حميمة وعشت مع البسطاء فى أكواخهم الموجودة فى أعالى الجبال وركبت الفيل وتجولت به وسط الغابات،
وبعد انتهاء الرحلة عادت وهى تحمل ملابس وطرحاً هندية جميلة وعاجاً وسواكاً وبخوراً ولكن كما كانت هذه القصص الغريبة والعجيبة وغيرها سبباً فى شعورى بالسعادة وأننى أختلف عن الآخرين..
كانت سبب متاعبى المستمرة لمدى غيرة أصدقائى منى لأننى لا أشاركهم ألعابهم وصراعهم وتصوروا أننى أتكبر عليهم رغم أنى كنت أكن لهم كل الحب والتقدير
ولكنى طفل ضعيف لا أقوى على مسايرتهم وممارسة ألعابهم..
وهنا وجدنا أن هناك سؤالاً مهماً وهو
: لماذا يذكر مصطفى محمود أحلام طفولته بهذا الكم الهائل من التفاصيل والأماكن؟
ووجدنا الإجابة..
لأنه هنا يظهر الفرق عند الدكتور مصطفى محمود.. فهذه التفاصيل هى الخلاصة
بمعنى أنه ما من طفل لا يحلم لكن لا يضع كل الأطفال أمامهم هدفاً لتحقيقه..
أما مصطفى محمود فهو لم يترك حلماً واحداً إلا وحققه فيما بعد..
مثلا أحلامه بزيارته للهند والتى حققها فيما بعد عندما سافر للهند وأقام هناك فترة طويلة تعلم فيها معظم أسرار الحضارة الهندية مثل الفنون والعبادات الهندية..
وأحلامه عن الغابات الاستوائية وحبه للحياة الأولية للإنسان (الفطرية)
وهو ما حققه بالفعل فيما بعد فى زيارته الشهيرة إلى وسط أفريقيا والتى عاد منها سيرا على الأقدام.
ولكن زاد حنقهم وحقدهم على أن يواصل حكاياته عندما علموا أنى غارق فى قصة حب تجاه فتاة كانوا يتقاتلون عليها،
وقد كنا نتجمع أنا وأصدقائى وأبناء الجيران فى بير السلم وكان معظمهم أصدقائى فى المدرسة وجيرانى فى شارع الحلو بطنطا
ونتبارى لإبراز مواهب كل منا وكانت تجلس معنا تلك الفتاة ناصعة البياض ذات الشعر الأشقر ابنة الجيران «عدلية»
وكانت جميلة جدا وعمرها تسع سنوات ووالدها يعمل معاون إدارة زراعية
وكانت تبهرها مواهبى التى تفوقت وتميزت بها على أبناء الجيران وأى طفل آخر فى عمرى،
فقد كنت أغنى وأقرأ القرآن بصوت يشبه صوت الشيخ محمد رفعت - كان صوتى جميلا-
وبعدها علمت أنها تبادلنى نفس الشعور بعد أن قبلتنى أول قبلة فى حياتى فى خدى تحت بير السلم، كنت أحكى لهم جميعا– ولها بالذات- حكايات من وحى الخيال فقد كانت تجلس ككليوباترا أو نفرتيتى بيننا وتطلب من كل طفل أن يحكى قصة من بنات أفكاره لترى من يستحق حبها وكانت حكايتى هى التى تفوز دائما وبعد أن أنهى حكايتى كانت تنظر إلىّ نظرة لم أنسها حتى الآن.. نظرة انبهاااااااااااااار..
وأقسم بأننى لا أعرف كيف كانت تأتينى أفكار هذه القصص والحكايات
ولكننى اكتشفت أن حبى لها هو ما كان يدفعنى لأتفوق على باقى الأطفال
ودائما كنت أحمد الله لأنها تختار أن تسمع قصصاً
وذلك لأنها إذا طلبت أن نتبارز ونتصارع لتعرف مدى قوتنا ومن يستحق حبها فكنت سأخسر المنافسة لا محالة،
وعلى مدى الأيام والشهور كنت أولع بحبها وازداد إعجابها بى
وعندما أردت أن أهديها شيئاً فكرت كثيرا وكنت أسأل إخوتى الذين علموا بالأمر،
الذى صار حديث أطفال الشارع والمدرسة جميعا وأطلقوا عليه «قصة حب محمود وعديلة»
ولكن استقر رأيى فى النهاية على نوع الهدية، الذى كان كتاباً يحتوى على أشعار فى الحب
وبعدها بأيام قليلة وجدتها تهدينى أول هدية حصلت عليها فى حياتى من الجنس الآخر وكانت عبارة عن «فيل عاج صغير» وفرحت به جدا لأنى كنت - كما ذكرت - أحب الحيوانات.
ولأن عديلة كانت جميلة جدا فكان صعباً على جميع الأطفال الذين فعلوا المستحيل من أجل أن تنظر إليهم نظرة واحدة أن يصدقوا أنها فضلتنى عليهم،
وكانوا كلما شاهدوا هذا الحب فى عيونى أو عيونها يُجنّون،
وشرعوا فى مضايقتى بأن يرددوا عبارة «من همه بيحب أد أمه» وذلك لأنها كانت تكبرنى بسنتين،
وفى النهاية اتفقوا مع بعضهم ولم يجدوا طريقة لكى يخلصوا منى سوى أن يضربونى علقة ساخنة ونفذوا اتفاقهم عند عودتى من المدرسة
ولم يكتفوا بذلك بل أصدروا «فرمان مرسوم عيالى» بعدم دخولى الشارع
ولكن تدخلت المفاوضات التى رضخوا لها بصعوبة شديدة بعد تعهدى بأن أبتعد عنها ولا أحاول رؤيتها وأنا ضعيف لا حول لى ولا قوة ولا أستطيع أن أحاربهم فى لعبة الضرب والحرب،
وعاش معى هذا الحب فترة تجاوزت السبع سنوات رغم كل محاولات خصومى من الضرب والطرد والتهجير من الشارع،
أى أنك تستطيع أن تقول إن حبى الأول هذا قد انضم إلى رفاق الطفولة الأخرى مع القصص والكتب والمجلات والأفلام.
ثم دخلت الثانوية أو كما كان يطلق عليها التوجيهية وبدأت القراءة تؤتى ثمارها..
فقد بدأت فى كتابة الشعر والقصص والروايات وظهرت اهتمامات أيضا بالعلوم
لدرجة أنى أنشأت معمل اختبار داخل بدروم المنزل
وأغرقت نفسى ليل نهار فى التجارب العلمية والتى كانت ستودى بحياتى أكثر من مرة بسبب حدوث بعض الحرائق وانفجارات صغيرة كل فترة..
وأغرقت نفسى بالعلوم التى كنت شغوفا بها مثل الكهرباء والبطاريات وجهاز التقطير والميكروفون والرسم على الورق وتنفيذ اختراعات لأجهزة،
أى أننى كنت لا أرتاح فى فترة الإجازة وهو ما دفع والدى إلى أن يبيع هذا المعمل لخوفه على..
وأتذكر أننى كنت أتمنى دائما زيارة الغابات الاستوائية التى رأيت صورها لأول مرة داخل كتاب الجغرافيا الذى درسناه فى السنة الرابعة بالثانوية
وقد تصفحت هذا الكتاب الكبير باهتمام شديد أكثر من عشر مرات،
وعندما كان يسأل المدرس فى مادة الجغرافيا كان الجميع يقولون لن يستطيع أحد أن يجيب غير مصطفى محمود فهو يعلم موضع كل حرف داخل الكتاب حتى إننى حصلت على سمعة كبيرة فى المدرسة بأننى محب لمواد الطبيعة والجغرافيا والعلوم
«وهذا كان سبباً فى أننى كنت الأول على المدرسة فى الثانوية»
وقرأت كثيرا عن أفريقيا وبصفة خاصة جنوب السودان ونيجيريا
ولم اكتف بذلك بل كنت أنزع صور القرود والحيوانات الأفريقية لأزين بها حجرتى بدلا من كبار الفنانين والمطربين ونجوم الكرة وأبطال الرياضات المختلفة التى كان إخوتى يعلقونها داخل حجراتهم.
التوقيع: نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
nehal غير متواجد حالياً أضافة تقييم إلى nehal تقرير بمشاركة سيئة رد مع اقتباس إقتباس متعدد لهذه المشاركة الرد السريع على هذه المشاركة
nehal
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى nehal
البحث عن كل مشاركات nehal
إضافة nehal إلى الإتصالات الخاصة بك
قديم 12-26-2009, 11:16 PM #9 (permalink)
محلاوى صميم
الصورة الرمزية nehal
افتراضي رد: مذكرات العالم الجليل د.مصطفي محمود
وبعد تفوقى فى المرحلة الثانوية التحقت بكلية الطب جامعة القاهرة التى كانت دراستها قاسية وتحتاج إلى مجهود مضن
إضافة إلى اعتراض أهلى الشديد على هذا الأمر لكونهم كانوا يرغبون فى التحاقى بكلية الحقوق
- التى كانت تخرج الوزراء والباشوات وقتها-
وتحملت كل ذلك لأنه كان لى أهداف أخرى من دراسة الطب غير أن أكون طبيبا.. فكما ذكرت فى السابق أن رحلتى من الشك إلى الإيمان أو اليقين صاحبتنى فى سن صغيرة..
الشك ظهر لأنى أريد أن أفهم ما يدور حولى، لم يكن طبيعيا أن يتقبل عقلى كل الأشياء والمعتقدات المتوارثة بسهولة..
مثلا مثالى الشهير الذى ذكرته من قبل هم علمونى وأنا صغير
أن كل (مخلوق) فى الدنيا له خالق.. كل مصنوع وموجود له من صنعه ومن أوجده..
فكنت أنا أتساءل فى عناد:
إذا كان كل شىء له خالقه فمن خلق الله ومن أوجده؟.. فإذا أجبتمونى بأنكم مؤمنون بأنه موجود بذاته فلماذا لا تؤمنون بأن أى شىء آخر مثل الدنيا قد أتى بذاته..
طبعا أنا ذكرت من قبل أن هذه الطفرات الذهنية وهذه المناطق المعقدة كنت أصمم عليها ليس من قبيل الزهو بعقلى وأفكاره المتطورة
ولكن من أجل أن أصل إلى يقين يزيد من إيمانى..
وكانت أفكارى أو أسلوب تفكيرى أحد أسباب اختيارى لهذه الكلية
وهو ما تحقق بالفعل فيما بعد.. فبعد أن تعرفت على البكتريا التى تسبب الأمراض.. وكيفية علاجها..
وبعد وقوفى أمام الجثث الموجودة داخل المشرحة بالساعات.. وجدت نقطة البداية للإجابة عن كل ما يدور فى فلك الحياة وكل ما يدور حولى وعرفت جيدا من أين جئنا وإلى أين سنذهب
وكان الوقوف أمام الموت فى المشرحة البداية الحقيقية للإيمان..
ومن المضحك أن لهذا السبب تعلقت بشدة بالمشرحة، فقد كنت أول طالب يدخلها وآخر من يغادرها،
وفى يوم من الأيام كنت داخل المشرحة ولم أشعر بالوقت وأغلقوا على أبوابها دون أن أشعر أو يشعروا بوجودى
ولكنى عندما انتهيت من العمل ووجدت الأبواب مغلقة وكان الجو بارداً جدا ناديت على الحراس بأعلى صوتى لمدة ربع ساعة حتى سمعونى وفتحوا لى الأبواب
وصارت القصة تتردد داخل أرجاء الكلية فى اليوم التالى:
وبسبب تلك القصة أصدر عميد الكلية تعليمات للأمن بأن يتفحصوا المشرحة جيدا قبل غلقها
وفوجئت عند دخولى المدرج ذات مرة متأخرا وكان الدكتور صادق يشرح للطلبة بأن قال لى ادخل يا «مشرحجى»
ومن بعدها وجدت الجميع يطلقون علىّ لقب المشرحجى .. وتعلقت بالتشريح وبهذا العلم العجيب..
وأتذكر أننى من عشقى للجثث والتشريح قمت بشراء جثة إنسان ميت بـ٥٠ قرشا وحملته بصعوبة وكان وزنه ثقيلا لأنه تغمره مادة الفورمالين التى تحفظ الجثة من التآكل أو إصدار رائحة كريهة..
وذهبت إلى المنزل وأنا سعيد جدا بالجثة التى أحملها وبمجرد دخولى حجرتى وضعتها فى حوض من الفورمالين لكى ينشفها
وعندما شاهدتنى أمى «رقعت بالصوت» وأصابها الهلع والخوف وفقدت الوعى وأسرعت لها وعندما فاقت صرخت فى وجهى
«إيه المصيبة اللى انت جايبها البيت دى؟.. بنى آدم ميت.. حرام عليك.. حرام عليك.. ترضى لما أموت حد يعمل فىّ كده..
ويبقى إيه العمل لو أهله راحوا المقابر وملقوش جثته»
فضحكت مما قالت وقبلت يدها أطلب منها السماح لأنى تسببت فى فزعها وقلت لها سامحينى يا أمى لابد أن أذاكر على هذه الجثة دروس التشريح طوال إجازة الصيف لكى أنجح بتفوق،
وبعد ساعات من المحاولات بإقناعها بأن هذا لصالحى وافقت على أن تبقى الجثة فى البيت ولكن على شرط أن أقوم بتنظيف حجرتى بنفسى طوال فترة وجودها بالبيت لأنها لن تقترب منها ووافقت
وأغلقت على باب حجرتى ووضعت تحت سريرى جثة إنسان رجل ميت عاش معى أربعة أشهر طوال فترة إجازة الصيف وكنت كل يوم أقوم بوضعها على منضدة التشريح وأتدرب عليها وأدرس كتب التشريح وبعد الانتهاء أضعها تحت السرير فى الحوض الملىء بالفورمالين
وبعد انتهاء فترة إجازة الصيف أصبحت لا أحتاج للجثة المهلهلة من العمل بها طوال أربعة أشهر فقمت ببيعها لأحد أصدقائى بـ١٥ قرشاً
ولكن رائحة الفورمالين التى ظللت أشمها طوال أربعة أشهر تسببت لى فى أزمة صحية حيث ظللت بعدها سنوات طويلة أعالج من النزلات الشعبية..
فالجثث والمشرحة لها فضل كبير فى تغيير طريقة تفكيرى..
وذلك لأن المفكر الحقيقى لا يجب أن يؤمن بالأشياء على طول الخط أو يكفر بها على طول الخط ولكنه بطبيعته يعيد النظر دائما فى الأشياء ويصحح الأخطاء مهما كانت
ودائما يختلف المفكرون عن الذين ينظرون للأشياء بنظرة قلبية بلا أى شك لأن كل شىء من حولهم معرض للشك حتى يثبت له العكس
والإنسان الطبيعى والعادى حين يبدأ مشواره ورحلة الحياة فهو يبدأ بالمسلمات الأولية التى أمامه مباشرة وليس أى شىء آخر ولا يشغل تفكيره بـ«لماذا وكيف ومتى»
ولكن الأشياء التى تقع تحت حسه هى التى يراها ويسمعها ويتعلم
منها ولكنى تمردت على كل هذه الطريقة التقليدية والروتينية وبدأت فى طرح الأسئلة التى كنت دائما لا أجد إجابة عنها فرغم انهماكى فى مواد كلية الطب إلا أنه كان يشغلنى دائما البحث عن إجابات لأسئلتى..
فى البحث عن اليقين.
لم يمنعنى كل هذا عن ممارسة هوايات كنت أحبها
فقد كنت منذ الصغر أحب الموسيقى وكان صوتى جميلاً
ووجدت أن الكثير من الفنانين تخرجوا فى كلية الطب
ومن الممكن أن نرجع السبب فى كل ذلك إلى أن الأطباء دائمو الوقوف أمام الموت وهم أقرب إلى الميت من الآخرين
فيرون كل يوم بأعينهم الموت وهو يقبض أرواح البشر فى الوقت الذى يفر فيه الجميع منه ويهرولون حتى الأقارب وأقرب الأقربين والأصدقاء
فى حين أن الطبيب الذى يعد أشجع إنسان تأتى به البشرية هو الوحيد الذى يواجه الموت ويحدق فى عينيه متحديا ومحاولا إنقاذ المريض هذا فضلا عن أنه الوحيد الذى يحضر ميلاد الإنسان ورحيله
وأول من يستقبل الإنسان فى الوجود وأيضاً آخر من يودعه من الوجود
وبالفعل هى لحظات رهيبة تكون قادرة على أن تخرج من داخلنا مارداً كبيراً اسمه الكاتب والموسيقار والشاعر والراقص
وقد ولد الفنان داخلى قبل هذه الظروف منذ أيام والدى الذى عشقته وكان مصدر الإلهام الأول فى حياتى فقد كان يحول بصوته الجميل الأرقام الحسابية إلى نغمات جميلة وهو يقرأ ويراجع أعمال وحسابات الموظفين
ولكنى ترجمت مشاعرى الفنية إلى أشياء واقعية وملموسة داخل مقام السيد البدوى بطنطا الذى نشأت بجواره وفى رحابه مع حلقات الذكر والتواشيح الدينية والابتهالات الصوفية والطبل والدفوف التى تصاحب أهل الذكر
وبعد ذلك بدأت أعشق العزف على الناى فى شباك غرفتى أثناء الظلام والسكون والهدوء الذى يسبق دخول الطائرات وسماع دوى صوت القنابل وانفجارات غارات الحرب العالمية الثانية
وكنت أشعر بأن هذا أنسب وقت لأخرج من داخلى مارد عازف الناى دون أن يراودنى شعور الخوف والاختباء فى الخنادق التى كان يسارع الناس إليها فى ذلك الوقت وكنت فى هذه الأيام بنهائى كلية الطب.
وقد شاء القدر أن أتعرف على الأسطى عبدالعزيز الكمنجاتى والراقصة فتحية سوست وكانا أصحاب فرقة لإحياء الأفراح والطهور واتفقا معى أن أنضم لفرقتهما ووافقت دون مقابل مادى
وهذا ما أثار دهشتهما ولكنى قلت لهما أنا أهوى العزف فقط ولا أنوى احترافه،
كان لا يجب أن أخبرهما بالسبب الحقيقى كنت أفضل أن أحتفظ به لنفسى..
فقد كنت فى ذروة انفعالى التفكيرى.. عدم اليقين بأى شىء نهائى– أنا كنت أحتاج أن أخوض التجارب، كل شىء أجربه وأحكم عليه..
وكان يأتى إلى البيت الأسطى عبدالعزيز وعندما تفتح له والدتى يقول لها قولى للدكتور الليلة فيه فرح فى درب البغالة أو فى الأنفوشى أو فى السيدة وكانت والدتى تنزعج جدا وكانت تعنفنى وتغضب لما أقوم به ولم تستوعب أنى أريد أن أترك نفسى للتجارب والبحث عن اليقين.
وفى أحد الأيام حدث شىء طريف للغاية لم أنسه حتى الآن
وكنت دائما أحكيه لأولادى ونضحك كثيرا من طرافة الموقف،
حيث كنت أعزف مع الفرقة فى أحد الأفراح الذى كنا نحييه على سطح أحد المنازل بالأنفوشى وصادف أنه كان هناك مجموعة من الشباب يشاهدون الفرح من على السطح المقابل لهذا المنزل وفوجئت بأحد زملائى فى الكلية لا أتذكر اسمه يقف بينهم ويقول لى وهو ميت من الضحك
«الله يا دكتور.. سمعنى يا دكتور.. اشجينى يا دكتور.. حلوة أوى الحتة دى يا دكتور.. يا سلام يا دكتور.. عشان خاطر الرقاصة عدها تانى»
وتوقعت أن المسافة من الإسكندرية للقاهرة ستمنعه من الحضور وإبلاغ أحد ولكنى فى اليوم التالى عندما ذهبت إلى الكلية وجدت أن طلبة كلية الطب ليس لهم حديث سوى هذا الموضوع وطبعا سمعت «تلقيح وكلام زى السم»
وتردد بأن مصطفى محمود كان يحيى فرحاً بالأمس فى الأنفوشى بالإسكندرية حتى وصلت القصة إلى الدكتور صادق وكنت أحترمه وأقدره
وهو من أطلق على لقب المشرحجى وطلبنى فى مكتبه ودار بيننا حديث ونقاش طويل يحاول أن يقنعنى بأن هواية عزف الناى شىء جميل ولكن لا يليق بى وأنا على وشك التخرج فى كلية الطب وسأصبح طبيباً أن أحترف العزف فى الأفراح
ولكنى شرحت له وجهة نظرى فلم يقتنع وخرجت من عنده لأجد الأسطى عبدالعزيز الكمنجاتى
يطلبنى لفرح جديد.. ووافقت.. وعزفت بعد ذلك فى أفراح كثيرة.
«المصري اليوم» تنشر مذكرات المفكر الكبير د.مصطفى محمود التــى سجلــهــا قبـــل وفــاتــه
الحلقةالأولى .. بذرة الشك
من كان يصدق ذلك؟ ؟؟
أخيراً بعد عشرين عاماً من الاختفاء وقبل وفاته.. يتكلم.. سأل عنه الناس.. وتكلموا.. ويئسوا.. ثم سألوا.. واندهشوا.. وصمتوا.. تعددت الشائعات فمنها أنه تم إبعاده لأسباب سياسية ومنها أن مرضاً لعيناً أصابه وأجلسه فى البيت، ومن روج أنه ترك عائلته ووطنه وسار هائماً على وجهه فى البلاد يبحث عن اليقين.
أخيراً وبعد عشرين عاماً من العزلة وقبل وفاته.. يتحدث.. ويطل على الناس.. ويروى.
أكثر من أثار الجدل فى مصر خلال القرن العشرين.. وأكثر الشخصيات التى تعرضت للهجوم والشائعات طوال حياته.. أخيراً يتكلم صاحب أكثر الكتب الدينية إثارة للجدل فى القرن العشرين (الله والإنسان) كتابه الأول الذى حوكم من أجله فى شهر رمضان وقد كان بداية لموجة التكفير، التى عانى منها المفكرون فى مصر خلال الخمسين عاماً الأخيرة.
مصطفى محمود.. العالم، المفكر، الفيلسوف، الطبيب، الفقيه، الصحفى، السياسى،
الكاتب، الأديب، يتكلم ويروى ويتحدث ويعلم أجيالاً افتقدوا القدوة وبحثوا عنها كثيراً، وحتى الآن لم يعثروا عليها.
ننشر هنا حقائق لأول مرة من خلال مذكراته التى روى منها جزءاً كبيراً وتم استخراج باقى هذه المذكرات من خلال أعماله وكتاباته، وهنا يجيب عن تساؤلات كثيرة ظلت بدون إجابات حول طفولته
وجمعية الكفار التى كونها فى الثانية عشرة من عمره
وكيف كانت حشرات الصراصير بداية رحلة الشك الطويلة
وهل بالفعل وصل مصطفى محمود إلى اليقين التام ؟وما المنهج الذى استخدمه؟
وكيف كان لوالده تأثير قوى عليه وكيف احتلت ابنته أمل مكانة الأم عنده.. ؟؟
وهل كان الموساد الإسرائيلى سبباً فى فشل زيجاته؟؟؟
وهل كان له يد فى الشائعات التى دارت حوله وهل حاول اغتياله؟
؟؟؟؟؟
؟؟؟
نكشف علاقته بكل من (هيكل.. صلاح حافظ.. عبدالوهاب.. صلاح جاهين.. هتلر.. السادات.. إحسان عبدالقدوس.. لويس جريس.. عبدالناصر.. لوتس عبدالكريم.. بنت الشاطئ.. روزاليوسف.. ماركس والشيوعية).
عن أزمة الشفاعة التى لم تنته حتى الآن
يتحدث عن قصة البرنامج الذى كانت تخلو شوارع مصر من المارة أثناء إذاعته.. ولماذا أراد مصطفى محمود أن يصور للناس عذاب القبر بالصوت والصورة؟
أين مصطفى محمود؟
لم يكن اقترابنا منه سهلا أبدا.. هو ناسك فى صومعته الآن.. غير مسموح لأحد بالتطفل أو الاختراق.. لذلك كان السماح لنا بالاقتراب أمراً غير عادى..
ذهبنا فوجدناه ولم نجده.. فقد كان جسده الذى نحل يملأ المكان.. وصوته الذى وهن يخترق سمعنا..
لا يشغله شىء عن قضاياه التى تفرغ لها.. ابتعد عن المشكلات التى تشغل المصريين هذه الأيام..
الفلاسفة دائما لا ينظرون إلى التفاصيل وإنما يرجعون كل المشاكل إلى العلل الكبرى
وعلل مصر والأمة العربية والإسلامية تتلخص الآن من وجهة نظره فى (تدنى الأخلاق، والبعد عن الدين، والفرقة).
اقتربنا منه فى اليوم الذى شهد مولده والعائلة تحتفل بعيد ميلاده الـ٨٨ فى السابع والعشرين من شهر ديسمبر عام ٢٠٠٨
.. شاهدناه.. راقبناه.. حاورناه.. جادلناه واستمتعنا بالخصوصية التى خصنا بها هو وعائلته الكريمة..
طفنا فى صومعته الخاصة التى لم تتجاوز شقة مساحتها ٨٥ متراً عبارة عن حجرتين وصالة صغيرة،
واجهنا صعوبة شديدة فى التحرك داخل أرجاء صومعته بسبب تلال الكتب المترامية، التى كادت تخفى معالم الجدران.
لم يتغير برنامجه طوال فترة اقترابنا منه فهو بعد الاستيقاظ فى الثامنة صباحاً يتناول وجبة إفطار خفيفة فى السرير «جبنة ومربة وعيش توست وشاى بلبن أو نسكافيه»، ثم يحصل على حمام دافئ، وبعد ذلك يبدأ بقراءة الجرائد، ويحصل على جولة قصيرة ليتابع أخبار العالم أمام التليفزيون، لينكبّ بعدها على كتبه ودفاتره يدون أفكاره مستنداً إلى لوحه الخشبى الشهير «مصطفى محمود لم يجلس على مكاتب أبدا»
لا يتوقف إلا لتناول الغداء فى الخامسة والذى لم يتغير أبدا عن السمك المشوى يتلوه تفاحة وموزة
ليستمر فى اجتهاده بين كتب الفلسفة والدين وعلوم الكون، ويحاول تفسير بعض الآيات الكونية التى وردت فى القرآن الكريم ويتناول وجبة العشاء فى العاشرة مساء وهى مثل الإفطار ليواصل اجتهاده إلى الثانية عشرة مساء.
وعن عزلته هذه تقول ابنته أمل
إنها ليست بجديدة عليه فقد كنا أطفالاً صغاراً لا نستطيع دخول غرفته.. والذى تغير هذه الأيام أن فترة العزلة قد طالت، لدرجة أنه يظل لأيام لا يتحدث مع أحد، مما يدفعها للقلق عليه فتذهب لتطمئن عليه فتجده فى حالة تأمل وسكون تام أو غرق فى القراءة، وعندما أظهرت قلقها عليه ذات مرة طمأنها وقال: «لا تقلقى على فأنا لا أعيش وحدى فالله معى ولا يتركنى».
إلا أن الأزمة الأخيرة التى أرقدته داخل المستشفى الذى يحمل اسمه، حيث عانى من التهابات شديدة فى قرنية العين.. ربما حسم أمره وقتها وقرر أنه آن الأوان أن يخرج من عزلته ويفتح دفاتر أسراره.
هناك صور لا تنمحى من الذاكرة أبداً مثل:
■ متى فقدت الأمل فى الحلم ورضيت بالواقع؟
■ ما اللحظة الفاصلة بين أنا القديم الحالم الساعى لتغيير العالم وبين أنا الذى صرت؟؟
■ فى أى يوم وفى أى ساعة وفى أى لحظه فهمت أن الحلم حلم والواقع واقع أكان ذلك أيام الجامعة أم فى دهاليز المجلة «سنة أولى تدريب» وأنا أرى القيم تتساقط أمامى الواحدة تلو الأخرى على يد أساتذتى الكتاب الكبار الذى كنت أحلم يوماً بالحديث لهم؟؟
■ أم حين كفرنى من كفرنى، لمجرد أن اعترضت على شعار الإسلام هو الحل وأشاعوا تنصيرى؟؟؟
■ أم حين شعرت بالغربة لأول مرة عن أهلى وأنا فى بلدى واخترت العزلة؟
لم تكن نشأته عادية، فمن يقرأ وهو فى الثامنة من عمره كتابات داروين وسلامة موسى، التى يصعب على البالغين استيعاب ما تحمله من أفكار طفل غير عادى..
وفى هذه النقطة يقول مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ، الذى ينتهى نسبه إلى علىّ زين العابدين إلى على بن أبى طالب: «كان كل ما يحاوطنى يدفعنى للتفكير.. ورفض المنطق أو المسلمات،
فعندما أنشأ وسط سبعة أخوة أنا أصغرهم، ويكون أبى هو الزوج الثالث لأمى، والمفارقة الغريبة أن تكون أمى الزوجة الثالثة لأبى،
وعندما يخبرونى أنى ولدت لتوأم اسمه سعد لكنه توفى بعد الولادة بأيام قليلة..
وهو الأمر الذى شغلنى كثيرا فى طفولتى أننى فقدت توأمى الذى وهبه الله لى..
ولدت فى قرية ميت خاقان القديمة بمدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية، التى كانت تسمى أيامها مديرية المنوفية، وكان ميلادى يوم ٢٠ ديسمبر عام ١٩٢١،
ولكن المقيد فى شهادة ميلادى هو يوم ٢٧ ديسمبر ١٩٢١ أى بعد ميلادى الحقيقى وهذا كان سببه أن معتقدات الناس فى وقتها أن المواليد لا يتم قيدهم إلا بعد مرور أسبوع لعل الطفل يموت فيصبح لا داعى للأوراق والدفاتر والسجلات وخلافه، وهذا ما حدث بالفعل مع توأمى، ولم يقوموا بتسجيلى بالتالى إلا بعد أن ارتاحت الأسرة بأنى يمكن أن يكون فى عمرى بقية.
ما تلى ذلك من سنوات كان مثيراً للدهشة فعلا وهو ما غيّر فى طفولتى بالفعل،
لأنه حدثت بينى وبين المرض صداقة غريبة وقد عانت أسرتى بسبب أمراضى المتكررة،
وربما يعود السبب فى ذلك إلى أننى مولود ابن سبعة أشهر. أتذكر مشاهد غريبة لا أنساها أبدا وأنا طفل صغير حين كنت أشاهد زملائى يلعبون ويمرحون ويلعبون الكرة ويجرون ويتصارعون بينما كنت عاجزاً عن أن أفعل مثلهم بالفعل وإلى الآن مازالت نزلة برد خفيفة يمكن أن تسكننى فى الفراش لمدة شهر،
ولهذا كان يجب أن أبحث عن ذاتى ولا يمكن أن أستسلم للمرض، ولهذا لم يكن غريبا أن يكون لى عالم خاص، لأنى أختلف كما رأيتم عن أقرانى،
فكنت أتركهم يلعبون الكرة وأدخل عالمى الخاص لأتجول فيه ما بين البطولات والانتصارات بداية من السندباد ورحلاته التى كانت لا تفارقنى والمكتشفين والعلماء وكانت أحلامى كلها بطولات سواء بطولات عسكرية مثل خالد بن الوليد والإسكندر الأكبر الذى كتبت فيما بعد مسرحية تحمل اسمه أو بطولات علمية مثل ماركونى وأديسون.
انتقلت الأسرة بعد ميلادى بأيام إلى شارع «الحلو» الذى كنا نسكن فيه بمدينة طنطا بمحافظة الغربية حاليا، بعد أن كانت تلقب بمديرية الغربية، وحين أتذكر تلك المرحلة المبكرة من حياتى تأتينى وعلى الفور من الذاكرة صورة والدى، ذلك الحنون الذى ينتمى فى خاطرى إلى تكوين الملائكة.. كان يحتضننى ويحملنى على كتفه فور عودته من عمله فى الديوان العام لمديرية الغربية،
ولأننى كنت آخر العنقود ومريضا فى نفس الوقت فقد كنت مدللا بمعنى الكلمة، رغم أن حال الأسرة أقل من المتوسط، فلو قلت له أحضر لى لبن العصفور لفعل ذلك دون تردد، وإذا قلت لهم «نفسى فى الملوخية» كما كنت أفعل دائما لأننى أحبها فكان يسرع والدى ووالدتى إلى كل الجيران يبحثون عن الملوخية إذا لم تكن فى قائمة طعامنا يومها،
وكانوا لا يردون لى طلبا مطلقا، وكما سبق وقلت كانت أمى هى الزوجة الثالثة لأبى وكان أبى هو الزوج الثالث لأمى، فقد تزوج أبى زوجته الأولى التى رحلت بعد زواجه منها وعلى ما أتذكر كان اسمها سعاد،
ثم تزوج الثانية وفشل فى زيجته، ثم كانت أمى هى الزوجة الثالثة له، ومن المفارقات الغريبة أنه هو أيضا كان الزوج الثالث لها ولأن أبى كان إنساناً طيباً حنوناً فقد ضم كل أولادها من زوجيها السابقين إليه ولهذا فقد كان منزلنا يضم عائلة كبيرة: شقيقتى الكبرى من أمى وشقيقتى الصغرى «اعتدال» وقد رحلتا منذ فترة كبيرة وشقيقين من زوج سابق لها وهما حلمى مراد ومحمد مراد، بالإضافة إلى شقيقى الأكبر المرحوم حسن محمود، الذى كان (محافظاً للدقهلية) فى الستينيات،
وشقيقى مختار هذا فضلا عن شخصى وتوأمى «سعد» الذى رحل بعد أيام من مولدنا،
وبهذا فكانت الأسرة تتكون من تسعة أفراد بعد موت سعد،
وكانت أمى طيبة وحنونة وسيدة منزل مدبرة حازمة وكأنها تحقق بذلك التوازن فى الأسرة لأبى المفرط فى عمليات الصرف، وكانت وزيرة اقتصاد لمرتب أبى الضئيل،
حيث كان يعمل محضراً براتب لا يتجاوز ٨٠ قرشاً، ولكنه كان إنسانا مثقفا يتحدث الفرنسية بطلاقة، فقد كانت شهادة الابتدائية التى حصل عليها تحمل فى مناهجها ودراستها التعمق فى دراسة اللغات الأجنبية ومنها الإنجليزية والفرنسية،
ثم تدرج أبى فى مناصبه من أولى الدرجات الوظيفية كمحضر إلى أن وصل إلى سكرتير فى مديرية الغربية وارتفع راتبه من ٨٠ قرشا حتى وصل إلى ٢٠ جنيها وهو أكبر راتب حصل عليه فى حياته،
وكانت له عادة لم يقطعها فى حياته منذ أول راتب تقاضاه وحتى آخر راتب،
وهو أنه كان يعطف بربع راتبه على الفقراء، كان يذهب إلى أقاربه الفقراء والجيران ومعارفه الذين كان يرى فيهم رقة الحال فى القرى المحيطة بطنطا ويوزع عليهم ربع هذا الراتب الضئيل، فقد كان حنونا عطوفا إلى أبعد مدى مع زوجته وأولادها وأقاربها ومعارفه، وعلى الرغم من الراتب الصغير الذى كان يتقاضاه أبى فإننا كنا نشعر بأننا أثرياء فلا نأكل إلا أفضل الغذاء،
ولا أستطيع أن أعلل أو أفسر سوى أنها «البركة»، فالراتب ضئيل وصغير ولكن الله بارك فيه، لأن من تقاضاه قد بذل فى سبيله العرق والجهد الذى يستحقه وقد أتقن عمله على الوجه الأكمل فبارك الله له فيما رزق، وكانت اللحوم والخضر والفاكهة والمأكولات لها طعم ونكهة تختلف عن الآن تماما، فما نأكله اليوم «كيماويات وأدوية وهرمونات»..
لا أستطيع أن أنكر أننى عشت حياة متواضعة فى منزلنا لكن شملتها الراحة والسكينة والطمأنينة والبركة فى المعيشة والمأكل والمشرب والملبس،
حقيقى أننى لم أكن أعرف السيارة أو التاكسى ولكن «الحمار» فى أحسن الأحوال كان وسيلة جميلة أستخدمها حينما كنت أريد أن أذهب إلى القرى المجاورة لزيارة أقاربنا ومعارفنا
وكان طريقى إلى المدرسة أقطعه سيرا على الأقدام يوميا ولا أنسى أن زملائى فى المدرسة (وكان اسمها الكتاب الشوكى نسبة إلى صاحبها الشيخ محمد الشوكى الذى كان يدرس اللغة العربية وكنت ألقبه بالبعبع نسبة إلى عنفه وشدته) كانت تنتظرهم على باب المدرسة سيارات فارهة لتوصيلهم إلى منازلهم، لكنى لم أعقد مقارنة مطلقا بينى وبينهم،
لم أحلم يوما بأن يكون لدى سيارة أو قصر ولم يخطر ببالى ضرورة أن أكون غنيا،
فقد كنت أعيش بكل كيانى فى عالمى الخاص وهو كان عالماً مليئاً بالقيم والمثل العليا ومليئاً بالبطولات والانتصارات، ودائماً كان بداخلى انتصار الخير على الشر فى هذه الحياة،
ورغم مرض أبى سبع سنوات كاملة كان فيها طريح الفراش فإننى لم أسمع منه شكوى واحدة أو عبارة تحمل نبرة السخط والتذمر بل كانت الابتسامة لا تفارق شفتيه أبدا،
وكان يؤدى فروض الرجل المسلم الموحد حتى آخر يوم فى حياته،
وأيضا كان يعتريه فى أواخر أيامه النسيان فكان يدخل عليه أصدقاؤه من المشايخ ويقولون له: يا شيخ محمود أنت رفعت عنك التكاليف، وكان أبى يضحك وهو يرد عليه قائلا: لا يمكن أن ترفع التكاليف أبدا.
وحينما كان ينسى بحكم السن والشيخوخة وضعف الذاكرة عدد الركعات كان يسألنى لأذكره. لقد كان أبى يمثل لى الكمال الخلقى النادر، وتعلمت منه الكثير من القيم والمثل العليا والنبيلة.
وقد كنت من مواليد نفس برج أبى، وهو برج القوس، لذا تمتعت بنفس صفاته ولم أكن من مواليد برج الجدى، وهذا يفرق كثيرا فى الأبراج،
لدرجة أن أحد رجال الفلك وكان يدعى الشيخ حسين ضرب لى النجم وحسب لى من المراجع الفلكية منذ أكثر من أربعين سنة، وقال لى أنت لست من برج الجدى، ولكن من برج القوس، وشكلك وملامح وجهك وصفاتك تقول إنك من برج القوس،
ومن مفارقات الأيام أن هذا المنجم قد تنبأ بما سيحدث لى على مدى عشرين عاما بالتفصيل والأرقام، ولا تسألونى عن إيمانى بالمنجمين، لأنى لا أقصد شيئاً ولكن فقط أقص عليكم ما حدث معى بالضبط.
كان مصطفى محمود يعرف ما نريد الحصول عليه بالضبط، فمما سبق عرفنا منه كيف تكونت أفكاره المتمردة أو المختلفة، ولكنه كان يلمح فى نظراتنا التلهف على معرفة كيف خرجت هذه الأفكار إلى أرض الواقع فقال:
«طفولتى كانت غريبة وعجيبة، كما ربانى والدى فى المسجد والكتاب، أى أنها كانت طفولة دينية من الدرجة الأولى، لكننى لم أجد فى نفسى المتلقى التقليدى وخلاص،
بل كان كل شىء يدخل بداخلى كان يمر على مصفاة فأنتقى الأشياء التى أشعر أنها يقينية وأتخلص من أى شىء أشعر بأنه هراء حتى لو كان من شيخ الجامع،
فمثلا الجميع يعرف قصة مرحلة الشك وكيف عبرت منها من الشك إلى اليقين،
ولكن الذى لا يعلمه أحد أن إمام مسجد هو من زرع بداخلى بذرة الشك الأولى فى العقيدة،
وفى كل ما يحيط بى خصوصا المسلمات (أى الأمور الفطرية التى يتعامل معها الإنسان كأنها أمور طبيعية مثل ما يتلقاه الابن من والديه فى طفولته وهكذا)، عندما تعامل معنا بجهل وكأنه يتعامل مع (شوية فراخ) دون أن يعلم أننى سأكون له بالمرصاد،
فقد كنت منذ طفولتى المبكرة أشعر بقلبى وعقلى يتجهان إلى الدين، فمنذ السابعة من عمرى كنت متجها للدين بكل حواسى ومشاعرى أصلى الفروض جميعها فى المساجد وأستمع بإنصات واهتمام شديدين إلى الأئمة والشيوخ والدعاة فى المساجد،
وكنت أتردد فى هذه الفترة على مسجد وضريح سيدى عز الرجال الموجود فى طنطا مع مجموعة كبيرة من أصدقائى نصلى الفروض والسنن ونستمع إلى وعظ شيخ الجامع (جامع سيدى عز الرجال والشيخ كان اسمه محمود) الذى كان يمثل لى قيمة كبيرة لم يتساو معها أى شخص فى تلك الفترة، ولهذا كنت أدون كل ما يقوله ونحضر المولد وحلقات الذكر وراءه،
إلى أن جاء يوم قال لنا فيه الشيخ محمود: شوفوا ياولاد..
أنا سأقول لكم على طريقة تقضون بها على الصراصير والحشرات الضارة فى المنزل وهى طريقة دينية عظيمة جدا، وكل واحد يفتح الكراسة وسوف أملى عليكم هذه الطريقة العظيمة الجديدة..
وأخذ يملى علينا كلاماً عبارة عن مزيج من الآيات والطلاسم، ثم قال لنا: الصقوا هذه الورقة على الحائط وسوف تكتشفون أن الصراصير سوف تموت موتاً شنيعاً على هدى هذه الطريقة الدينية العظيمة..
وبالطبع فقد فرحت من كل قلبى، لأننى كنت على استعداد لتصديق كل ما يقول وكتبت كل ما قاله بالحرف الواحد ولصقته باهتمام شديد على الحائط وجلست منتظراً النتيجة، لكن خاب ظنى،
وأصبت بإحباط شديد، فقد تزايدت الصراصير وأصبحت أضعاف ما كانت قبل طريقة الشيخ، بل الأدهى من هذا أن الصراصير اتخذت من الورقة التى أخبرنى بها الشيخ ملجأ لها ومن يومها أحسست أن الرجل «نصّاب كبير»،
وبدأت أشك فى كل شىء ليس فى هذا الشيخ وحده ولكن فى كل من حولى،
وكانت هذه هى بذرة الشك التى زرعت فى نفسى وقد زرعها الشيخ محمود خطيب وواعظ جامع سيدى عز،
لم أشك فى الورقة التى دعا إليها فقط أو فى حديثه، ولكن اعترانى شك فى كل شىء.
قصة الشك وتاريخها أصلا مرتبطان بطبيعة تكوينى الفكرى وطبيعتى كمفكر.. ضحك وقال (وهنا أذكر بأننى كنت مفكراً وأنا فى بطن أمى)
فمن طبيعة المفكرين أن يعيدوا النظر فى المسلمات، إنهم يبدأون من البداية الأولى،
دائماً يبدأون من صفحة بيضاء، فهم على الدوام ضد المسلمات،
فهذه هى الرحلة الطبيعية، وهى تعنى شكاً منهجياً وليس شكاً عنادياً، فهناك فرق بين أن يعاند الإنسان أو يجادل، وبين ألا يسلم بالبدهات أو يبدأ بالمسلمات بأن يكون منهجياً..
وبالفعل إن قصة الشك قديمة وبدأت معى من الطفولة حين كنت أخطو أولى خطواتى وكنت لا أزال مراهقاً صغيراً لم أتجاوز ١٢ عاما عندما أحببت أن أتمرد على شيخ الجامع فكونت جمعية فى بيتنا المقابل له وقد سميتها (جمعية الكفار)،
وكنت أناوش الشيخ بها، كنا نكتب مطبوعات هذه الجمعية ونحاول اختراق المسجد لكى نلصقها بداخله ونوزعها على المصلين لجذب أعضاء جدد لكنهم أمسكوا بى ذات مرة وضربونى علقة ساخنة فى الجامع،
وقد أخرج الشيخ كل غضبه علىَّ فى هذه المرة، لأننى فكرت ولأننى أول من اعترض على كلامه وأفكاره،
وكانت هذه الأفعال ليس من وحى خيالى، ولكنه كان تيارا موجوداً على الساحة أيامها ينشر هذا الاتجاه ممثلا فى كتب دارون وسلامة موسى وشبل شميل والتى كانت أفكارهم ثورة على الدين
وهذه الثورة استهوتنى بشكل كبير وبالتالى سرت على هذا الطريق وهذا المنهج، وكنت أقضى يومياً من ٥ إلى ٦ ساعات فى مكتبة البلدة بطنطا وأقرأ فى مختلف المجالات وأدخل فى مناقشات ومجادلات وخناقات تنتهى بالضرب والجرى،
خاصة بعد إنشاء (جمعية الكفار) هذه التى كانوا يعتبرون أفكارها بالطبع دعوة للكفر، وكان معى فى هذه الجمعية أصدقاء مسيحيون،
وخطورة هذا أن هذه الجمعية كانت ضد الأديان عموماً، وكانت مرحلة غريبة فى حياتى كلها على الإطلاق، ولو تأملتم كيف ولماذا تكونت جمعية الكفار أو ما هو مبعث شكوكى فى الأديان ستجدوا أن شيخاً واعظاً هو الذى قادنى إلى الشك، فقد ولدت شكوكى على يد شيخ، والسبب فى هذا أنه تحدث بجهل وخطأ،
وهذه أسوأ طريقة، فلاشك أن الوعظ الخاطئ يمكن أن يقود إلى كارثة مروعة،
فالذى قاله شيخ سيدى عز الرجال لا يمت للدين بصلة مطلقاً، فهو لاشك رجل كذاب ودجال على أى حال،
وكنت فى هذه الفترة من العمر أتساءل فى تمرد: «تقولون إن الله خلق الإنسان لأنه لابد لكل مخلوق من خالق ولابد لكل صنعة من صانع ولابد لكل موجود من موجد صدقنا وآمنا، فلتقولوا لى إذن من خلق الله أم أنه جاء بذاته وإذا كان كذلك فى تصوركم فلماذا لا تصدقون أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهى الإشكال»،
وعندما كنت أقول هذا فتصفر من حولى الوجوه وتنطلق الألسن تمطرنى باللعنات وتتسابق إلى الكلمات عن يمين وشمال ويستغفر لى أصحاب القلوب النقية،
ويطلبون لى الهدى، نعم لقد رفضت عبادة الله، لأننى استغرقت فى عبادة نفسى، وأعجبت بومضة النور التى بدأت تومض فى فكرى مع انفتاح الوعى وبدأت الصحوة من مهد الطفولة.
وفى عمر الـ١٦
بدأت برفض المسلمات. لم أكن أريد أن آخذ شيئاً عن أبى وأمى، ولكن كنت أريد أن أجتهد اجتهاداً شخصياً، وبدأت بالمحسوس الذى أمامى ولم أبدأ بما وراء الطبيعة،
وقد تمثل هذا المحسوس فى الطبيعة «الفيزياء» فوجدت الفيزياء والكيمياء عاجزة عن أن تفسر لى شيئاً عاجزة عن أن تفسر لى الحياة والموت،
ومن أجل ذلك استعنت بالفلسفة فوجدت أنها فى حاجة إلى فلسفة لتعينها، فبدأت بالأديان سواء كانت سماوية أو دنيوية (بوذا وزرادشت وعيسى وموسى ومحمد)
فوجدت كمال الأمر كله فى القرآن..
وكانت هذه هى المرحلة الطبيعية، ورغم أننى اتجهت بقلبى إلى الدين فكانت هناك أسباب حقيقية قادتنى إلى الشك، ومن هنا بدأت رحلة الشك، وبدأت أحاور وأرفض وتحدث فجوة بينى وبين الدين وتزايدت هذه الفجوة تدريجياً.
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]
إن سر القلق:
أننا نعيش بلا دين .. بلا إيمان وأن ديننا هو من الظاهر فقط..
كلمات على الألسن فى المناسبات وصلوات تؤدى بحكم العادة..
فاعرف نفسك تعرف ربك، أصبح الآن بحكم الوصول لابد من المرونة والتكيف..
حتى لا نصطدم ونشتبك ولابد لنا من المداهنة والمجاملة والتملق واكتساب الناس بالكذب عليهم،
لابد أن ننافق الذين نكرههم لأن لهم فائدة ونتجنب الذين نحبهم لأنهم يعطلوننا فى الطريق..
بالفعل إن نجاحنا يعتقلنا.. ينتهك حرماتنا وفى الوقت الذى نظن فيه أننا ننجح ونحقق أحلامنا إذا بنا فى الحقيقة نفقد هذه الأحلام.. ونفقد أنفسنا وكل هذا من أجل إشباع حوافز الطعام والجنس وحب السيطرة.
مصطفى محمود
مازالت ذكريات الطفولة تنساب.. حكايات الطفولة غير العادية لفيلسوف الشرق..
فيقول:
«طفولتى كانت غريبة وعجيبة.. كانت لا تستقر أبدا أو تعيش على الأرض التى أقف عليها،
كانت سلسلة من الأحلام الجميلة والشيقة التى أغوص داخلها،
طفولتى كانت سلسلة من الهروب، هروب من واقعى المريض العليل أو هروب من مرحلة الطفولة نفسها، التى بطبيعتها ضيقة تحصر الطفل بحكم السن داخل حدود صغيرة جدا،
بينما كانت طبيعتى نفسها أكبر من المرحلة العمرية، فكانت تراودنى أحلام كبيرة وضخمة.. لا تقل فى ضخامتها عن جبال غابات الأمازون التى تمنيت مشاهدتها
وتمنيت رحلات للغابات الاستوائية التى كنت أقرأ عنها فى الكتب والقصص
وأظل ساعات طويلة أعيش فى حالة من الخيال الذى يدفعنى لأن أصدق أننى ذهبت إلى هناك فى ثوان معدودة ومارست اللعب مع القرود والغزلان وسارعت بالهروب من الأسود والنمور قبل أن تبتلعنى..
وكنت أترك لقلبى وعواطفى وعقلى العنان.. بلا قيود..
وما شجع هذه الخيالات والأحلام طبيعة المناخ الثقافى الذى عشته وعاشته أسر الطبقة المتوسطة فى هذه الفترة الزمنية فى الربع الأول من القرن الماضى،
حيث كنت أداوم على مشاهدة روايات طرازان والسندباد والسندريلا فى أفلام السينما والتى بسببها كنت أقترض بعض مصروفات إخوتى لأنى أنفق مصروفى بالكامل فى أيام معدودة من أجل مشاهدتها أكثر من مرة
وعشقت قصص السندباد وربنسون كروزو وأعجبت بقصة تحطيمه لمركبه ليعيش فى الغابات بين الأشجار الكثيفة والقرود والحيوانات،
وتمنيت أن أفعل مثله
لأنه ليس هناك أجمل وأروع من أن يعيش الإنسان على الفطرة والطبيعة التى خلقها الله بدون تدخلات وعبث البشر بها والتى تفسدها باسم التحضر والتكنولوجيا.
(ومن الممكن القول بأن المناخ الثقافى لهذه الفترة كان سبب نضوج عقلية مصطفى محمود)
ولكنه قال: كان أحد الأسباب فقط، فأبى شكّل الدعم الأكبر فى هذه المرحلة..
فمن المشاهد التى لا أستطيع حتى اليوم أن أنساها أبدا أنه بينما كان الآباء من جيراننا يدخلون بيوتهم وفى يد الواحد منهم كيس من الفاكهة أو الخضار،
كان أبى يترك شؤون البيت هذه لأمى، فأبى لم يدخل البيت أبدا وهو يحمل «ربطة فجل»، كان يحمل دائما فى يديه المجلات والكتب..
ولا أنسى عندما دخل وهو يحمل ربطة كتب ومجلات ملفوفة بخيط دوبارة وأعطاها لى بدون أن يذكر لى ماذا أفعل بها..
كنت مازلت طفلا صغيرا وبالتالى كانت النتيجة المنطقية أن أقوم بتقطيع معظم هذه الكتب، إلا أننى وأنا ألعب وأمرح على بقايا مذبحة الكتب وقعت عيناى على إحدى صفحات مجلة وجدتها تحمل صوراً ورسومات شيقة لقصة مصورة..
أعجبتنى جدا.. وأردت أن أعرف باقى القصة..
ودفعنى عقلى الصغير إلى محاولة إعادة تجميع وترتيب القصة كلها.. وكانت بداية القراءة معى..
وكان هذا ما يريده أبى الذى كان يراقبنى من بعيد، بينما كان من فى مثل عمرى لا يستطيعون حتى الرضاعة.
كما أن هناك مشاهد فى طفولتى لا يمكن أن تنسى أو تنمحى من ذاكرتى
فقد كنت أحب وأعشق المدرسة ويوم الجمعة كان يوم الإجازة الأسبوعى من المدرسة، أو كما كنا نسميه يوم المسامحة،
وكنت أتمرد على هذه التعليمات وأذهب فى الصباح وأقفز من فوق السور إلى داخل المدرسة حتى لا يرانى الخفير وأتجول فى الفصول حتى يحين موعد أذان العصر
ثم أمضى إلى أصدقائى وأقص عليهم أننى كنت فى المدرسة اليوم فيقولون غير مصدقين «اليوم هو المسامحة» فأقول «أنا معنديش مسامحة أبداً»
وكان أحب الأيام لقلبى عندما أرتدى الزى الجديد فى أول يوم دراسى والأيام التى كنت فيها أقود مراكبى التجارية إلى الهند أثناء تساقط الأمطار الغزيرة بمنتصف فصل الشتاء فى فناء المدرسة
فقد كنت أصنع مراكب من الورق وأسيّرها فى المستنقعات الصغيرة والبرك التى خلفتها الأمطار وأتخيل أنها ذهبت إلى الهند وأنى أقودها وأثناء الرحلة تقابلت مع الهنود ونشبت بينى وبينهم صداقة حميمة وعشت مع البسطاء فى أكواخهم الموجودة فى أعالى الجبال وركبت الفيل وتجولت به وسط الغابات،
وبعد انتهاء الرحلة عادت وهى تحمل ملابس وطرحاً هندية جميلة وعاجاً وسواكاً وبخوراً ولكن كما كانت هذه القصص الغريبة والعجيبة وغيرها سبباً فى شعورى بالسعادة وأننى أختلف عن الآخرين..
كانت سبب متاعبى المستمرة لمدى غيرة أصدقائى منى لأننى لا أشاركهم ألعابهم وصراعهم وتصوروا أننى أتكبر عليهم رغم أنى كنت أكن لهم كل الحب والتقدير
ولكنى طفل ضعيف لا أقوى على مسايرتهم وممارسة ألعابهم..
وهنا وجدنا أن هناك سؤالاً مهماً وهو
: لماذا يذكر مصطفى محمود أحلام طفولته بهذا الكم الهائل من التفاصيل والأماكن؟
ووجدنا الإجابة..
لأنه هنا يظهر الفرق عند الدكتور مصطفى محمود.. فهذه التفاصيل هى الخلاصة
بمعنى أنه ما من طفل لا يحلم لكن لا يضع كل الأطفال أمامهم هدفاً لتحقيقه..
أما مصطفى محمود فهو لم يترك حلماً واحداً إلا وحققه فيما بعد..
مثلا أحلامه بزيارته للهند والتى حققها فيما بعد عندما سافر للهند وأقام هناك فترة طويلة تعلم فيها معظم أسرار الحضارة الهندية مثل الفنون والعبادات الهندية..
وأحلامه عن الغابات الاستوائية وحبه للحياة الأولية للإنسان (الفطرية)
وهو ما حققه بالفعل فيما بعد فى زيارته الشهيرة إلى وسط أفريقيا والتى عاد منها سيرا على الأقدام.
ولكن زاد حنقهم وحقدهم على أن يواصل حكاياته عندما علموا أنى غارق فى قصة حب تجاه فتاة كانوا يتقاتلون عليها،
وقد كنا نتجمع أنا وأصدقائى وأبناء الجيران فى بير السلم وكان معظمهم أصدقائى فى المدرسة وجيرانى فى شارع الحلو بطنطا
ونتبارى لإبراز مواهب كل منا وكانت تجلس معنا تلك الفتاة ناصعة البياض ذات الشعر الأشقر ابنة الجيران «عدلية»
وكانت جميلة جدا وعمرها تسع سنوات ووالدها يعمل معاون إدارة زراعية
وكانت تبهرها مواهبى التى تفوقت وتميزت بها على أبناء الجيران وأى طفل آخر فى عمرى،
فقد كنت أغنى وأقرأ القرآن بصوت يشبه صوت الشيخ محمد رفعت - كان صوتى جميلا-
وبعدها علمت أنها تبادلنى نفس الشعور بعد أن قبلتنى أول قبلة فى حياتى فى خدى تحت بير السلم، كنت أحكى لهم جميعا– ولها بالذات- حكايات من وحى الخيال فقد كانت تجلس ككليوباترا أو نفرتيتى بيننا وتطلب من كل طفل أن يحكى قصة من بنات أفكاره لترى من يستحق حبها وكانت حكايتى هى التى تفوز دائما وبعد أن أنهى حكايتى كانت تنظر إلىّ نظرة لم أنسها حتى الآن.. نظرة انبهاااااااااااااار..
وأقسم بأننى لا أعرف كيف كانت تأتينى أفكار هذه القصص والحكايات
ولكننى اكتشفت أن حبى لها هو ما كان يدفعنى لأتفوق على باقى الأطفال
ودائما كنت أحمد الله لأنها تختار أن تسمع قصصاً
وذلك لأنها إذا طلبت أن نتبارز ونتصارع لتعرف مدى قوتنا ومن يستحق حبها فكنت سأخسر المنافسة لا محالة،
وعلى مدى الأيام والشهور كنت أولع بحبها وازداد إعجابها بى
وعندما أردت أن أهديها شيئاً فكرت كثيرا وكنت أسأل إخوتى الذين علموا بالأمر،
الذى صار حديث أطفال الشارع والمدرسة جميعا وأطلقوا عليه «قصة حب محمود وعديلة»
ولكن استقر رأيى فى النهاية على نوع الهدية، الذى كان كتاباً يحتوى على أشعار فى الحب
وبعدها بأيام قليلة وجدتها تهدينى أول هدية حصلت عليها فى حياتى من الجنس الآخر وكانت عبارة عن «فيل عاج صغير» وفرحت به جدا لأنى كنت - كما ذكرت - أحب الحيوانات.
ولأن عديلة كانت جميلة جدا فكان صعباً على جميع الأطفال الذين فعلوا المستحيل من أجل أن تنظر إليهم نظرة واحدة أن يصدقوا أنها فضلتنى عليهم،
وكانوا كلما شاهدوا هذا الحب فى عيونى أو عيونها يُجنّون،
وشرعوا فى مضايقتى بأن يرددوا عبارة «من همه بيحب أد أمه» وذلك لأنها كانت تكبرنى بسنتين،
وفى النهاية اتفقوا مع بعضهم ولم يجدوا طريقة لكى يخلصوا منى سوى أن يضربونى علقة ساخنة ونفذوا اتفاقهم عند عودتى من المدرسة
ولم يكتفوا بذلك بل أصدروا «فرمان مرسوم عيالى» بعدم دخولى الشارع
ولكن تدخلت المفاوضات التى رضخوا لها بصعوبة شديدة بعد تعهدى بأن أبتعد عنها ولا أحاول رؤيتها وأنا ضعيف لا حول لى ولا قوة ولا أستطيع أن أحاربهم فى لعبة الضرب والحرب،
وعاش معى هذا الحب فترة تجاوزت السبع سنوات رغم كل محاولات خصومى من الضرب والطرد والتهجير من الشارع،
أى أنك تستطيع أن تقول إن حبى الأول هذا قد انضم إلى رفاق الطفولة الأخرى مع القصص والكتب والمجلات والأفلام.
ثم دخلت الثانوية أو كما كان يطلق عليها التوجيهية وبدأت القراءة تؤتى ثمارها..
فقد بدأت فى كتابة الشعر والقصص والروايات وظهرت اهتمامات أيضا بالعلوم
لدرجة أنى أنشأت معمل اختبار داخل بدروم المنزل
وأغرقت نفسى ليل نهار فى التجارب العلمية والتى كانت ستودى بحياتى أكثر من مرة بسبب حدوث بعض الحرائق وانفجارات صغيرة كل فترة..
وأغرقت نفسى بالعلوم التى كنت شغوفا بها مثل الكهرباء والبطاريات وجهاز التقطير والميكروفون والرسم على الورق وتنفيذ اختراعات لأجهزة،
أى أننى كنت لا أرتاح فى فترة الإجازة وهو ما دفع والدى إلى أن يبيع هذا المعمل لخوفه على..
وأتذكر أننى كنت أتمنى دائما زيارة الغابات الاستوائية التى رأيت صورها لأول مرة داخل كتاب الجغرافيا الذى درسناه فى السنة الرابعة بالثانوية
وقد تصفحت هذا الكتاب الكبير باهتمام شديد أكثر من عشر مرات،
وعندما كان يسأل المدرس فى مادة الجغرافيا كان الجميع يقولون لن يستطيع أحد أن يجيب غير مصطفى محمود فهو يعلم موضع كل حرف داخل الكتاب حتى إننى حصلت على سمعة كبيرة فى المدرسة بأننى محب لمواد الطبيعة والجغرافيا والعلوم
«وهذا كان سبباً فى أننى كنت الأول على المدرسة فى الثانوية»
وقرأت كثيرا عن أفريقيا وبصفة خاصة جنوب السودان ونيجيريا
ولم اكتف بذلك بل كنت أنزع صور القرود والحيوانات الأفريقية لأزين بها حجرتى بدلا من كبار الفنانين والمطربين ونجوم الكرة وأبطال الرياضات المختلفة التى كان إخوتى يعلقونها داخل حجراتهم.
التوقيع: نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
nehal غير متواجد حالياً أضافة تقييم إلى nehal تقرير بمشاركة سيئة رد مع اقتباس إقتباس متعدد لهذه المشاركة الرد السريع على هذه المشاركة
nehal
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى nehal
البحث عن كل مشاركات nehal
إضافة nehal إلى الإتصالات الخاصة بك
قديم 12-26-2009, 11:16 PM #9 (permalink)
محلاوى صميم
الصورة الرمزية nehal
افتراضي رد: مذكرات العالم الجليل د.مصطفي محمود
وبعد تفوقى فى المرحلة الثانوية التحقت بكلية الطب جامعة القاهرة التى كانت دراستها قاسية وتحتاج إلى مجهود مضن
إضافة إلى اعتراض أهلى الشديد على هذا الأمر لكونهم كانوا يرغبون فى التحاقى بكلية الحقوق
- التى كانت تخرج الوزراء والباشوات وقتها-
وتحملت كل ذلك لأنه كان لى أهداف أخرى من دراسة الطب غير أن أكون طبيبا.. فكما ذكرت فى السابق أن رحلتى من الشك إلى الإيمان أو اليقين صاحبتنى فى سن صغيرة..
الشك ظهر لأنى أريد أن أفهم ما يدور حولى، لم يكن طبيعيا أن يتقبل عقلى كل الأشياء والمعتقدات المتوارثة بسهولة..
مثلا مثالى الشهير الذى ذكرته من قبل هم علمونى وأنا صغير
أن كل (مخلوق) فى الدنيا له خالق.. كل مصنوع وموجود له من صنعه ومن أوجده..
فكنت أنا أتساءل فى عناد:
إذا كان كل شىء له خالقه فمن خلق الله ومن أوجده؟.. فإذا أجبتمونى بأنكم مؤمنون بأنه موجود بذاته فلماذا لا تؤمنون بأن أى شىء آخر مثل الدنيا قد أتى بذاته..
طبعا أنا ذكرت من قبل أن هذه الطفرات الذهنية وهذه المناطق المعقدة كنت أصمم عليها ليس من قبيل الزهو بعقلى وأفكاره المتطورة
ولكن من أجل أن أصل إلى يقين يزيد من إيمانى..
وكانت أفكارى أو أسلوب تفكيرى أحد أسباب اختيارى لهذه الكلية
وهو ما تحقق بالفعل فيما بعد.. فبعد أن تعرفت على البكتريا التى تسبب الأمراض.. وكيفية علاجها..
وبعد وقوفى أمام الجثث الموجودة داخل المشرحة بالساعات.. وجدت نقطة البداية للإجابة عن كل ما يدور فى فلك الحياة وكل ما يدور حولى وعرفت جيدا من أين جئنا وإلى أين سنذهب
وكان الوقوف أمام الموت فى المشرحة البداية الحقيقية للإيمان..
ومن المضحك أن لهذا السبب تعلقت بشدة بالمشرحة، فقد كنت أول طالب يدخلها وآخر من يغادرها،
وفى يوم من الأيام كنت داخل المشرحة ولم أشعر بالوقت وأغلقوا على أبوابها دون أن أشعر أو يشعروا بوجودى
ولكنى عندما انتهيت من العمل ووجدت الأبواب مغلقة وكان الجو بارداً جدا ناديت على الحراس بأعلى صوتى لمدة ربع ساعة حتى سمعونى وفتحوا لى الأبواب
وصارت القصة تتردد داخل أرجاء الكلية فى اليوم التالى:
وبسبب تلك القصة أصدر عميد الكلية تعليمات للأمن بأن يتفحصوا المشرحة جيدا قبل غلقها
وفوجئت عند دخولى المدرج ذات مرة متأخرا وكان الدكتور صادق يشرح للطلبة بأن قال لى ادخل يا «مشرحجى»
ومن بعدها وجدت الجميع يطلقون علىّ لقب المشرحجى .. وتعلقت بالتشريح وبهذا العلم العجيب..
وأتذكر أننى من عشقى للجثث والتشريح قمت بشراء جثة إنسان ميت بـ٥٠ قرشا وحملته بصعوبة وكان وزنه ثقيلا لأنه تغمره مادة الفورمالين التى تحفظ الجثة من التآكل أو إصدار رائحة كريهة..
وذهبت إلى المنزل وأنا سعيد جدا بالجثة التى أحملها وبمجرد دخولى حجرتى وضعتها فى حوض من الفورمالين لكى ينشفها
وعندما شاهدتنى أمى «رقعت بالصوت» وأصابها الهلع والخوف وفقدت الوعى وأسرعت لها وعندما فاقت صرخت فى وجهى
«إيه المصيبة اللى انت جايبها البيت دى؟.. بنى آدم ميت.. حرام عليك.. حرام عليك.. ترضى لما أموت حد يعمل فىّ كده..
ويبقى إيه العمل لو أهله راحوا المقابر وملقوش جثته»
فضحكت مما قالت وقبلت يدها أطلب منها السماح لأنى تسببت فى فزعها وقلت لها سامحينى يا أمى لابد أن أذاكر على هذه الجثة دروس التشريح طوال إجازة الصيف لكى أنجح بتفوق،
وبعد ساعات من المحاولات بإقناعها بأن هذا لصالحى وافقت على أن تبقى الجثة فى البيت ولكن على شرط أن أقوم بتنظيف حجرتى بنفسى طوال فترة وجودها بالبيت لأنها لن تقترب منها ووافقت
وأغلقت على باب حجرتى ووضعت تحت سريرى جثة إنسان رجل ميت عاش معى أربعة أشهر طوال فترة إجازة الصيف وكنت كل يوم أقوم بوضعها على منضدة التشريح وأتدرب عليها وأدرس كتب التشريح وبعد الانتهاء أضعها تحت السرير فى الحوض الملىء بالفورمالين
وبعد انتهاء فترة إجازة الصيف أصبحت لا أحتاج للجثة المهلهلة من العمل بها طوال أربعة أشهر فقمت ببيعها لأحد أصدقائى بـ١٥ قرشاً
ولكن رائحة الفورمالين التى ظللت أشمها طوال أربعة أشهر تسببت لى فى أزمة صحية حيث ظللت بعدها سنوات طويلة أعالج من النزلات الشعبية..
فالجثث والمشرحة لها فضل كبير فى تغيير طريقة تفكيرى..
وذلك لأن المفكر الحقيقى لا يجب أن يؤمن بالأشياء على طول الخط أو يكفر بها على طول الخط ولكنه بطبيعته يعيد النظر دائما فى الأشياء ويصحح الأخطاء مهما كانت
ودائما يختلف المفكرون عن الذين ينظرون للأشياء بنظرة قلبية بلا أى شك لأن كل شىء من حولهم معرض للشك حتى يثبت له العكس
والإنسان الطبيعى والعادى حين يبدأ مشواره ورحلة الحياة فهو يبدأ بالمسلمات الأولية التى أمامه مباشرة وليس أى شىء آخر ولا يشغل تفكيره بـ«لماذا وكيف ومتى»
ولكن الأشياء التى تقع تحت حسه هى التى يراها ويسمعها ويتعلم
منها ولكنى تمردت على كل هذه الطريقة التقليدية والروتينية وبدأت فى طرح الأسئلة التى كنت دائما لا أجد إجابة عنها فرغم انهماكى فى مواد كلية الطب إلا أنه كان يشغلنى دائما البحث عن إجابات لأسئلتى..
فى البحث عن اليقين.
لم يمنعنى كل هذا عن ممارسة هوايات كنت أحبها
فقد كنت منذ الصغر أحب الموسيقى وكان صوتى جميلاً
ووجدت أن الكثير من الفنانين تخرجوا فى كلية الطب
ومن الممكن أن نرجع السبب فى كل ذلك إلى أن الأطباء دائمو الوقوف أمام الموت وهم أقرب إلى الميت من الآخرين
فيرون كل يوم بأعينهم الموت وهو يقبض أرواح البشر فى الوقت الذى يفر فيه الجميع منه ويهرولون حتى الأقارب وأقرب الأقربين والأصدقاء
فى حين أن الطبيب الذى يعد أشجع إنسان تأتى به البشرية هو الوحيد الذى يواجه الموت ويحدق فى عينيه متحديا ومحاولا إنقاذ المريض هذا فضلا عن أنه الوحيد الذى يحضر ميلاد الإنسان ورحيله
وأول من يستقبل الإنسان فى الوجود وأيضاً آخر من يودعه من الوجود
وبالفعل هى لحظات رهيبة تكون قادرة على أن تخرج من داخلنا مارداً كبيراً اسمه الكاتب والموسيقار والشاعر والراقص
وقد ولد الفنان داخلى قبل هذه الظروف منذ أيام والدى الذى عشقته وكان مصدر الإلهام الأول فى حياتى فقد كان يحول بصوته الجميل الأرقام الحسابية إلى نغمات جميلة وهو يقرأ ويراجع أعمال وحسابات الموظفين
ولكنى ترجمت مشاعرى الفنية إلى أشياء واقعية وملموسة داخل مقام السيد البدوى بطنطا الذى نشأت بجواره وفى رحابه مع حلقات الذكر والتواشيح الدينية والابتهالات الصوفية والطبل والدفوف التى تصاحب أهل الذكر
وبعد ذلك بدأت أعشق العزف على الناى فى شباك غرفتى أثناء الظلام والسكون والهدوء الذى يسبق دخول الطائرات وسماع دوى صوت القنابل وانفجارات غارات الحرب العالمية الثانية
وكنت أشعر بأن هذا أنسب وقت لأخرج من داخلى مارد عازف الناى دون أن يراودنى شعور الخوف والاختباء فى الخنادق التى كان يسارع الناس إليها فى ذلك الوقت وكنت فى هذه الأيام بنهائى كلية الطب.
وقد شاء القدر أن أتعرف على الأسطى عبدالعزيز الكمنجاتى والراقصة فتحية سوست وكانا أصحاب فرقة لإحياء الأفراح والطهور واتفقا معى أن أنضم لفرقتهما ووافقت دون مقابل مادى
وهذا ما أثار دهشتهما ولكنى قلت لهما أنا أهوى العزف فقط ولا أنوى احترافه،
كان لا يجب أن أخبرهما بالسبب الحقيقى كنت أفضل أن أحتفظ به لنفسى..
فقد كنت فى ذروة انفعالى التفكيرى.. عدم اليقين بأى شىء نهائى– أنا كنت أحتاج أن أخوض التجارب، كل شىء أجربه وأحكم عليه..
وكان يأتى إلى البيت الأسطى عبدالعزيز وعندما تفتح له والدتى يقول لها قولى للدكتور الليلة فيه فرح فى درب البغالة أو فى الأنفوشى أو فى السيدة وكانت والدتى تنزعج جدا وكانت تعنفنى وتغضب لما أقوم به ولم تستوعب أنى أريد أن أترك نفسى للتجارب والبحث عن اليقين.
وفى أحد الأيام حدث شىء طريف للغاية لم أنسه حتى الآن
وكنت دائما أحكيه لأولادى ونضحك كثيرا من طرافة الموقف،
حيث كنت أعزف مع الفرقة فى أحد الأفراح الذى كنا نحييه على سطح أحد المنازل بالأنفوشى وصادف أنه كان هناك مجموعة من الشباب يشاهدون الفرح من على السطح المقابل لهذا المنزل وفوجئت بأحد زملائى فى الكلية لا أتذكر اسمه يقف بينهم ويقول لى وهو ميت من الضحك
«الله يا دكتور.. سمعنى يا دكتور.. اشجينى يا دكتور.. حلوة أوى الحتة دى يا دكتور.. يا سلام يا دكتور.. عشان خاطر الرقاصة عدها تانى»
وتوقعت أن المسافة من الإسكندرية للقاهرة ستمنعه من الحضور وإبلاغ أحد ولكنى فى اليوم التالى عندما ذهبت إلى الكلية وجدت أن طلبة كلية الطب ليس لهم حديث سوى هذا الموضوع وطبعا سمعت «تلقيح وكلام زى السم»
وتردد بأن مصطفى محمود كان يحيى فرحاً بالأمس فى الأنفوشى بالإسكندرية حتى وصلت القصة إلى الدكتور صادق وكنت أحترمه وأقدره
وهو من أطلق على لقب المشرحجى وطلبنى فى مكتبه ودار بيننا حديث ونقاش طويل يحاول أن يقنعنى بأن هواية عزف الناى شىء جميل ولكن لا يليق بى وأنا على وشك التخرج فى كلية الطب وسأصبح طبيباً أن أحترف العزف فى الأفراح
ولكنى شرحت له وجهة نظرى فلم يقتنع وخرجت من عنده لأجد الأسطى عبدالعزيز الكمنجاتى
يطلبنى لفرح جديد.. ووافقت.. وعزفت بعد ذلك فى أفراح كثيرة.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى